باريس ــ بسّام الطيارة
الموقف الفرنسي الرسمي من الوضع في لبنان، وإن لم يخرج عن متحدثين رسميين، إلا أنه يلامس «الاعتدال»، الذي دعا شيراك حزب الله إليه، في موقف يعارض التوجه الأميركي لجهة اعتباره «أداة سورية» لتقويض «الديموقراطية اللبنانية»

احتفل الرئيس الفرنسي جاك شيراك أمس بعيد ميلاده الرابع والسبعين، ما يجعله يحتل المرتبة الثانية بين معمّري حكّام العالم مباشرة وراء الرئيس الكوبي فيدل كاسترو، الذي تجاوز العقد الثامن.
وكان من المنتظر أن يحتفل زعماء الحلف الأطلسي في نهاية لقائهم في العاصمة اللاتفية ريغا بهذه المناسبة، قبل أن تتعقد الأمور وتكاد تتسبب بأزمة دبلوماسية على أكثر من صعيد. وتقول مصادر رافقت الوفد الفرنسي إن شيراك كان قد أعلن عن رغبته في دعوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى عشاء يجمعه مع رئيسة لاتفيا فايرا كيكي فريبارغ حول مائدة في مطعم يقدم الوجبات الأرمنية.
ويقول العارفون إن مبادرة شيراك كانت بهدف إرسال إشارة إلى روسيا إلى أن قمة الحلف الأطلسي المنعقدة في جمهورية سوفياتية سابقة ليست موجهة ضدها. وأضاف مسؤولون في الحلف إن شيراك أراد أن يكون اللقاء من دون رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير والرئيس الأميركي جورج بوش. وقد أثار ذلك حفيظة الرئيس الأميركي ودفع السلطات اللاتفية إلى إلغاء اللقاء.
ويقول متابعون لقمة ريغا الأطلسية إن التباين بين شيراك وجورج بوش لم يقتصر على دعوة بوتين الخاصة فقط، فقد وجه الرئيس الفرنسي انتقادات حادة لتوجه الإدارة الأميركية لتوسيع نشاط الحلف نحو بقاع الأرض قاطبة، إذ يتحدث البعض عن ضم أوستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وإنشاء كلية حربية للحلف في عمّان.
إلا أن هذا التباين لم ينسحب على الوضع في لبنان والحوار مع سوريا، فقد عقد شيراك مؤتمراً صحافياً قبل مغادرة ريغا، جدد فيه دعوة حزب الله إلى «احتلال المركز الذي يعود إليه على الساحة اللبنانية»، وطالبه بأن «يكون قوة اعتدال في لبنان».
ورفض شيراك «الحوار مع سوريا» مجدداً التذكير بأن «التفاوض يجب أن يصل إلى شيء ما» وهو برأيه «ما لم يحصل مع دولتين أوروبيتين» فاوضتا دمشق، في إشارة إلى زيارتي وزير خارجية اسبانيا وإيطاليا إلى العاصمة السورية. وقال إن «جورج بوش يشارك فرنسا الرأي في ذلك».
ويأتي هذا التأكيد رغم تسريبات أميركية في باريس من أن «هناك توجهاً حقيقياً لطرح سلة حوافز على دمشق من أجل المساعدة في إمساك انزلاق المنطقة إلى حافة الهاوية»، لكن هذه التسريبات تضيف إن «هذه الحوافز تعني العراق أكثر منه لبنان»، من دون أن يرى المراقبون كيف يمكن الإدارة الأميركية فصل الحالة اللبنانية عن «سلة الحوافز التي تتكلم عنها التسريبات». ويرى البعض في ذلك تبايناً بين واشنطن وباريس.
وتتفق مصادر مطلعة في باريس على أن رسم «خريطة التباين والتقارب بين سياسات العاصمتين معقّد، وفيه الكثير من السوريالية»، التي تتداخل فيها السياسات الداخلية والعوامل الشخصية الخاصة لكل من الرئيسين.
وتقول هذه المصادر إن السياسة الأميركية، رغم ما تتحدث عنه الوسائل الإعلامية، بعيدة جداً عن «مخاض التغيير»، كما يحلو للبعض الخوض في تحليلها، وإن كان هؤلاء يؤكدون أنه «إن كان هناك تغيير، فهو نتيجة تغيرات على الأرض تتأقلم معها السياسة الأميركية».
لكن حسب هذه المصادر، فإن هذا لا يعنى أن الدبلوماسية الفرنسية لا «تحبذ تغييراً في بعض أوجه السياسة الأميركية، وخصوصاً تجاه المسألة الفلسطينية باتجاه الضغط على إسرائيل واتّباع سياسة أكثر توازناً» يكون لها وزن أكبر في أي حل مقبل.
أما بالنسبة إلى الملف اللبناني، فإن للدبلوماسية الفرنسية، بحسب مصادر مطلعة جداً، هدفين «من الصعب جداً الاختلاف في شأنهما مع الأميركيين» وهما «تطبيق كامل للقرار ١٧٠١ وصولاً إلى مؤتمر باريس ٣ نقطة على السطر».
أما بخصوص ما يدور على الساحة اللبنانية، فإن موقف باريس، بحسب هذه المصادر، مرتبط بـ«ضرورة تجنّب ما يمكن أن يؤثر على هذه الأهداف بصورة مباشرة أو غير مباشرة».
ومن هنا يفسر مطلعون على الملف اللبناني «التشنّج الذي رافق طلعات الطائرات الإسرائيلية فوق لبنان وقوات اليونيفيل». إذ إنه، بحسب هذه المصادر، «يؤخّر تطبيق القرار ١٧٠١».
وقد تحدثت مصادر إعلامية كثيرة عن إمكان «أن تحل الطائرات الفرنسية محل الطائرات الإسرائيلية في مراقبة الأجواء اللبنانية» لرفع هواجس إسرائيل من «عدم احترام قرار حظر السلاح عن حزب الله»، وإن أكدت المصادر الفرنسية «وجود أفكار عديدة لمعالجة هواجس الجميع في شأن حظر السلاح»، مشيرة إلى أن من بين هذه الأفكار فكرة ما بات يسمى في أوساط لجنة الأمم المتحدة العسكرية «طيران يونيفيل».
وتفسّر مصادر مطلعة وجهة نظر فرنسا والمجتمع الدولي بالنسبة إلى ما بات يعرف بـ«مسألة احترام القرار ١٧٠١» أن البند الخامس عشر في القرار ينص صراحة على «حظر توريد السلاح»، وأن المجتمع الدولي، ومعه فرنسا، لا ينظران فقط إلى «الخروق المادية للحظر»، بل «ينتظران من الدول أن تقوم بما يجب على الصعيد التشريعي لتنسجم تشريعاتها وقوانينها مع مطالب مجلس الأمن» في ما يتعلق بهذا الحظر «كما كان الوضع بالنسبة إلى العراق والحظر الذي أقرّ في حينه».
وتشير هذه المصادر إلى «عدم لمس أي خرق مادي للحظر» من عملية تهريب أسلحة أو ما شابه، إلا أنها في الوقت نفسه «لا تستطيع الجزم بعدم حصول عمليات تهريب».
ويرى المتابعون للملف اللبناني أن تطبيقاً فعلياً للقرار ١٧٠١ «يساعد كثيراً في إنهاء الأزمة السياسية التي يجتازها لبنان»، لكن بخلاف ما تتناقله بعض وسائل الإعلام في شأن الموقف الفرنسي، فإنه يبدو أن وجهة نظر فرنسا نحو «مدخل الخروج من الأزمة» هو، بحسب مصدر مسؤول ومطلع، «حكومة وحدة وطنية» لأن «الحكومة حل لكل المسائل العالقة».
وتتابع مصادر أخرى تعليقاتها في شأن ما يدور على الساحة اللبنانية بالقول إن «التظاهر والتظاهرات هي من مداميك الممارسة الديموقراطية، ما دامت لم تخرج عن الأطر السلمية»، وترى أن التوصل إلى حل في شأن الحكومة يرفع الكثير من العراقيل، التي تعوّق الحياة السياسية اليوم، وخصوصاً التي «يمكن أن تحول دون انعقاد مؤتمر باريس ٣»، مع تأكيد أن «نوعية الحكومة الجديدة وتوجهاتها ستؤثران من دون أي شك على مؤتمر المساعدات وعلى نوعية المشاركة فيه».
كما ترى هذه المصادر أن حكومة الوحدة الوطنية يمكن أن تساعد على «إبقاء يد للبنان عاملة في تأليف المحكمة ذات الطابع الدولي».
وإن نفت مصادر عديدة وجود فكرة تحويل المحكمة تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة «من دون طلب الحكومة اللبنانية»، إلا أنها أكدت أنه في حال وجود عوائق تمنع تأليف المحكمة ذات الطابع الدولي «فإنه من المحتمل جداً أن تسعى بعض القوى الدولية إلى طلب تأليف محكمة دولية» شبيهة بمحكمة يوغسلافيا أو راوندا.
وينتظر المراقبون أن تقوم الإدارة الفرنسية بإصدار نوع من المواقف «التوضيحية» لسياستها تجاه لبنان، وخصوصاً في ظل «تزايد الحديث عن زيارة محتملة للرئيس شيراك إلى لبنان قبل فترة الأعياد أو خلالها».
ويفسّر البعض زيارة الرئيس الفرنسي، إذا تمت، بأنها مؤشر إلى رغبته في «إعلان أهليته لقيادة فرنسا من جديد»، ما يمكن أن يؤثر كثيراً على التوازنات الداخلية الفرنسية، فجميع المراقبين يجمعون على أن «الحرب اللبنانية أعادت شيراك إلى واجهة الأحداث»، وإذا قرر الترشّح فلن يترك لسيغولين رويال «سبق الأخذ بخاطر آل الجميل ولا أخذ صور بين القوات الفرنسية في الجنوب اللبناني».