حيفا ــ فراس خطيب
عصر السبت في الثامن من رمضان، الشمس في طريقها إلى المغيب والرياح أسرع من معدلها اليومي. على مدخل مدينة سخنين الفلسطينية، وعلى مقربة من النصب التذكاري للشهداء، تقف امرأة محجّبة توزع صوراً للشهداء على المارّين. إلى جانبها يقف طفلان، يحمل الأول علم فلسطين والثاني ينظر إليه، متمنّياً لو يتعب ليتولى المهمة.
من هذا المكان تحديداً، انطلقت مسيرة «الوفاء لشهداء تشرين الأول». الناس توافدوا ببطء إلى المكان. بطء أثار القلق من أن يكون الحضور «هزيلاً» في ذكرى لـ«علامة فارقة» مثل تشرين الأول.
لكنّ الدقائق العشر التي سبقت الانطلاقة كانت الأقوى، فالميدان امتلأ بالبشر. وصلت الوفود إلى المكان بعد مسيرات صباحية في بلدات الشهداء، من المثلث الفلسطيني حتى الجليل. يقدر عددهم ببضعة آلاف. «هذا ليس كافياً»، قال رجل كهل وهو يرتّب عقاله الأبيض، ناظراً بغضب إلى عدد من الشبان المتظاهرين، عندما كانوا يسترقون مكاناً في إحدى زاويا الشارع خفية ليشعلوا سيجارة في الثامن من رمضان.
في مثل هذا اليوم تقريباً، وفي 28 أيلول عام 2000 تحديداً، دخل عضو الكنيست الإسرائيلي، زعيم الليكود في حينه، أرييل شارون، إلى باحة المسجد الأقصى وأشعل الغضب بين جدرانه. كانت الزيارة في ذلك الوقت استفزازية إلى حد «الاتقان السياسي».
الناس بين جدران الأقصى اشتعلوا غضباً، وانتقل غضبهم إلى الشارع. وكانت الضفة الغربية أول من هبّت ومن بعدها غزة. اجتاح الجيش الاسرائيلي المناطق المحتلة مجدداً، وبدأ الشهداء يتساقطون. وأعلن الفلسطينيون عن بداية «انتفاضة الأقصى».
ولم يتوقف الحدّ هناك. امتدّ الغضب إلى الشارع الفلسطيني في الأراضي المحتلّة عام 1948. أصدر المسؤولون الاسرائيليون أوامر لضرب متظاهري الداخل بالرصاص الحي. من الأول حتى الثالث عشر من تشرين الأول، كانت «هبّة تشرين» علامةً أخرى على علاقة اسرائيل مع الفلسطينيين في داخلها.
المسيرة تنطلق والهتافات تعلو. كانت الشعارات علامات على أن تشرين الأول عاد حاملاً معه جراحاً مزمنة، بدأت من النكبة وصولاً إلى الذكرى السادسة لاعتداء تشرين الأول. هتف الشبان في وسط التظاهرة «بنت جبيل، بنت جبيل، هدَّت للصهيوني الحيل»، وأخرى للأسرى «أبو أسعد والقنطار، نحن عدرب الأحرار». وابو أسعد، هو الأمين العام لحركة أبناء البلد في الداخل ولا يزال قابعاً في السجون الإسرائيلية.
كانت أم أسيل تلف الحطّّّّّّّّّة الفلسطينية حول عنقها، حاملة صورة الشهداء وتسير وحدها بصمت. تسير بسرعة، من أول التظاهرة حتى آخرها. ومن آخرها إلى أولها. كانت ترتدي الأسود كعادتها منذ ستة أعوام، منذ أن سقط أسيل في اليوم الثاني لـ«هبّّّّة تشرين الأول». أسيل لم يعد، وهي لم تعد كما كانت. قالت إنّها «راضية عن إحياء الذكرى»، لكنّ «يوماً في العام لا يكفي لأنّ الحكومة الاسرائيلية لا تزال تتبع النهج نفسه... القضية قضية شعب».
قالت لـ «الأخبار»، وعيناها تلمعان من دمعة آيلة إلى السقوط، «منذ سقوط أسيل وأنا أرسم وحدي سيناريوهات عن مستقبل جديد. أكتب عن شيء منشود، لا أريد أن تشعر أمّ بما أشعره اليوم. خوفي ليس من الماضي، خوفي من القادم، فأنا خائفة على براء أيضاً» (ابنها الثاني).
بعد أحداث تشرين الأول، خضع رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك لمطالب «تشكيل لجنة تحقيق رسمية». وصدرت في العام 2003 توصيات امتدت على كتابين غليظين من القطع الكبير. استعرضت اللجنة من خلالهما «تعامل المؤسسة مع الفلسطينيين في الداخل». وأوصت بالتحقيق مع قادة الشرطة ممن اتهموا بقتل الشبان. لكنّ أحداً لم يدفع الثمن، ولا يزال المجرمون حتى هذا اليوم أحراراً، ومنهم من تحوّل إلى «بطل قومي».
التظاهرة تسير في شوارع سخنين. لا تعوقها سوى الزقاقات الكثيرة في تلك المدينة. لا ملامح للمدينة فيها سوى عدد سكانها المتزايد من عام إلى عام. تحيطها مستوطنات يهودية ومناطق صناعية تحدّ من توسّعها وتقمع مسطحها بعد سلسلة مصادرات لأرضها بعد النكبة، وتبعتها مصادرات قمعية في عام 1976، عندما هبّت الجماهير الفلسطينية في الداخل، في تحرك أطلق عليه اسم «يوم الأرض».
المسيرة تقترب من نهايتها عند النصب التذكاري للشهداء في دوّار المدينة. ناقلات البث تجتمع هناك لتنقل صورة حيةّ. عددها أقل من العام الماضي. مصوّر التلفزيون الإسرائيلي يلهث وراء المتظاهرين الذين يغنّون للبنان، ليعود حاملاً «سبقاً صحافياً». قادة فلسطينيون يجتمعون حول النصب التذكاري ويدينون سياسة القمع الاسرائيلية وضرورة الوحدة في وجه المؤسسة الحاكمة. والصحافيون يفتشون عن ذوي الشهداء لحديثهم. كل الصحافيين تحدثوا عن تشرين الأول، متناسين أن الشرطة الاسرائيلية قتلت 33 فلسطينياً بدم بارد، وفي أحداث متفرقة حصلت كلها بعد تشرين الأول.
الساعة تقترب من موعد الإفطار، بدأ الحشد يتفرق بعد يوم أشعلته الذاكرة. الهدوء يخيم على النصب التذكاري والشمس تظهر ملامح أولى للمغيب. هناك في الساحة، أربعة شبان، يشعلون سجائرهم، ويغنّون «لكتب اسمك يا بلادي عالشمس اللي ما بتغيب».