القاهرة ــ محمد شعير
غيّب الموت أمس الكاتب الصحافي والمؤرخ المصري محمد عودة بعد رحلة صراع مع السرطان استمرت ما يقرب من عام، قاوم فيها المرض، لكن جسده النحيل لم يتحمل، فآثر الغياب.
ويلقب عودة بـ «غاندي الثقافة العربية»، ويسميه آخرون «الفقير الهندي»، ربما لأنه ينتمي إلى تلك الفئة من البشر، التي لم تكن تطمع في شيء، ولا تسعى للحصول على مكسب أو غنيمة من وراء مواقفها، فقط يدافع عما يراه صواباً وعما يؤمن به دفاعاً شرساً.
ويعد عودة تقريباً المثقف المصري الوحيد الذي دخل سجون الملك فاروق وجمال عبد الناصر وأنور السادات على التوالي دفاعاً عما يراه صواباًشارك عودة في كتابة «قنطرة الذي كفر»، أول رواية بالعامية المصرية في الخمسينيات مع صديقه الأديب مصطفى مشرفة.
آمن، كما يقول صديقه الصحافي أحمد إسماعيل، بالماركسية واختلف مع الماركسيين، وآمن بعبد الناصر واختلف مع الناصريين، وظل نسيجاً وطنياً خالصاً، خليطاً من القومية والصوفية، ومزجاً ساحراً بين الحضارة الغربية التي أحبها وتاريخ مصر الذي استحضره حياً.
في السبعينيات، أسس مع صديقه الدكتور حسن حنفي مجلة «اليسار الإسلامى»، وهي رؤية خاصة اعتقد بها عودة وراح يؤسس مع صديقه طبيعة اليسار الإسلامي عبر التاريخ، وانتهت المحاولة بمصادرة العدد الثاني وطرد حسن حنفي من الجامعة ودخول محمد عودة إلى السجن.
كان الاستغناء هو فلسفته في الحياة، ولهذا لم يحاول أن يقترب من السلطة، رغم أنه كان قادراً على أن يتمتع بمكاسبها، واتخذ بينه وبينها مسافة لكي يكون تفكيره مستقلاً. الاستغناء تحوّل عنه إلى فلسفة، حتى أنه لم يكن يحتفظ في بيته، كما كتب عنه يوسف الشريف في كتابه الممتع «صعاليك الزمن الجميل»، بنسخة من أي من كتبه أو بأي من كتاباته الصحافية أو الحوارات التي أجريت معه، ولا حتى بصوره في المناسبات أو الأوسمة التي نالها في بعض البلدان العربية.
ولا يحتفظ أيضاً بالكتب التي يفرغ من قراءتها، يقرأها حتى يهضمها ويستوعبها ثم يهديها إلى غيره، ولا يحتفظ منها إلا بما يتعلق بالتاريخ والتراث والوثائق المهمة!
ربما كان عودة من الكتّاب الصحافيين القلائل الذين لم يلتقوا بعبد الناصر وجهاً لوجه أو يتحدث إليه حديثاً مباشراً، وكان أيضاً من القلائل الذين لم يحصلوا من نظامه على مكاسب خاصة. بل إن سجون عبد الناصر استضافته ذات مرة.
رغم الخلاف مع عبد الناصر، إلا أن ثورة تموز حظيت بالجانب الأكبر من كتابات عودة، وكان مدافعا شرساً عنها ضد خصومها، حتى إن أصدقاءه كانوا يلقبونه بـ«أرملة عبد الناصر».
فقد ألف عودة ثلاثة كتب لا يعتبرها دفاعاً عن عبد الناصر أو تبريراً لما قام به، بل «دفاع عن الشرف السياسي والثقافي لمصر».
حلل عودة في كتابه الذي حمل عنوان «الوعي المفقود» شخصية توفيق الحكيم وموقفه من القضايا الاجتماعية والسياسية واتخاذه دائماً موقفاً لا يطاوله فيه أحد، وأنه لو أراد أن ينتقد أو يوجه لأمكنه ذلك، لكنه لم يفعل وآثر السلامة الذاتية وهذا يتفق مع طبيعته الشخصية والأدبية وهي مركبات تبعده عن فهم معنى الثورة.