strong>فؤاد إبراهيم
كما تخبر التقاليد المتوارثة في الحكم السلالي في السعودية، فإن التسويات الداخلية تكون من مهمة الأقطاب النافذين عبر تفاهمات ودية تتم تحت إطار مجلس العائلة، الذي أنقذ الحكم في السعودية من مآزق بالغة الخطورة

التسويات الداخلية والتفاهمات الودية داخل العائلة الحاكمة كانت أساس حل الخلاف بين سعود وفيصل في ستينيات القرن الماضي، وبعد مقتل الملك فيصل عام 1975، وبروز خلاف حول المؤهل عمرياً للعرش، وكان الأمير محمد بن عبد العزيز المعروف بـ (أبو شرين)، قد تنازل عن حقه في الملك لشقيقه خالد ومن بعده لأخيه فهد.
كان نصاب المجلس يكتمل في كل حادثة تنطوي على تهديد لوحدة العائلة المالكة، وغالباً ما ينتصر التقليد العائلي في حسم الخلافات، بوجود حكماء أو شخصيات نافذة تملك قوة إقناع فريدة تؤول الى جلب الرضى والقبول بالقسمة. وتكون تلك الشخصيات غالباً، مورد قبول الأجنحة الرئيسية داخل العائلة المالكة، ما كان يجعل تسوية الخلافات ممكنة من دون حاجة إلى اعتماد آليات غير تقليدية.
ويعدّ رحيل الملك فهد في نهاية تموز 2005 بداية مرحلة جديدة غير مسبوقة في تاريخ العائلة المالكة، فمن جهة أصبح دور الملك مقيداً بأوضاع حكم بالغة التعقيد، الأمر الذي يحول دون حيازته صلاحيات مطلقة، بحسب النظام الأساسي للحكم الصادر في آذار 1992. ويعود هذا الخفض لسلطة الملك إلى تنامي قوى أخرى داخل الجهاز الإداري للدولة، باتت تملك قدرة على التأثير، سلباً أو إيجاباً، في سياسات الدولة وتوجهاتها، بما فرض معادلة جديدة للحكم تقوم على توازن قوى للسلطة.
ومن جهة ثانية، فإن الوضع الجديد بالقوى الفاعلة فيه ينذر بمستقبل أشد تعقيداً مما هو عليه إذا بقي تقليد توارث السلطة بالطريقة السائدة، حيث ستقع الدولة حكماً في قبضة الجناح السديري المؤلف حالياً من ستة أخوة هم: الأمير سلطان (ولي العهد ووزير الدفاع)، والأمير نايف (وزير الداخلية والشخصية النافذة في غالبية أجهزة الدولة)، والأمير سلمان (أمير الرياض، وهو شخصية مقربة من علماء الدين وله نفوذ واسع في الجهاز الإعلامي العام والخاص)، والأمير أحمد (نائب وزير الداخلية)، والأمير عبد الرحمن (نائب وزير الدفاع)، والأمير تركي (وزير دفاع سابق قبل أن يقرر العيش في مصر).
هذا المسار التقليدي لا بد أنه يبعث هواجس الأجنحة الأخرى في العائلة المالكة، التي تجد نفسها تدريجياً خارج تخوم السلطة. وهناك خشية حقيقية لدى تلك الأجنحة من اختزال الحق التاريخي لسلالة المؤسس في الجناح السديري، لذلك يرى المراقبون أن رسالة «هيئة البيعة»، المعلن عنها في العشرين من تشرين الأول، تبطن نيــــة كــــسر الاحتـــكار المستــــقبلي للسلطة من الجناح السديري، وفتح أفق القسمة لاستيــــعاب الأربــــعة والعـــشرين ابناً للملك المؤسس على قيد الحياة.
قرار الملك عبد الله تأليف هيئة البيعة يشدد في استهدافاته المفصح عنها، أي تنظيم شؤون الحكم ومبايعة الملك وولي العهد، على آلية صناعة الإجماع داخل العائلة المالكة، ويظهر من فحوى القرار الجديد، وكذلك السياق العام لعلاقة الأطراف الضالعة في الحكم، أن الهيئة جاءت في سياق تجاذب داخلي كان مكتوماً منذ مرض الملك السابق فهد عام 1996 وحتى رحيله في آب 2005، ثم بقي هذا التجاذب مكبوتاً منذ اعتلاء عبد الله العرش في آب 2005.
واللافت في قرار تأليف الهيئة أنه رفع الغطاء عن حجم القوى داخل العائلة المالكة ومنسوب نفوذها في العملية السياسية بصورة عامة، الأمر الذي يلمّح إلى ضعف عامل الحسم في عملية صناعة القرار، وبالتالي فإن ما يشبه توازن قوى حال دون استخدام الملك عبد الله لصلاحياته الدستورية (بحسب النظام الأساسي للحكم)، وهو ما أدى الى تعطيل التقليد المتوارث على الأقل في العقود الثلاثة الأخيرة بأن يختار الملك نائباً ثانياً عنه في حياته. وهذا يستدعي للذاكرة ما يقرب من عقد من الزمن عاشته المملكة من دون سلطة حاسمة، وهو ما سمح بتنامي قوى ترسخت أقدامها داخل الدولة تأهباً لمرحلة ما بعد غياب الملك فهد.
الهيئة المؤلفة من مجلس عائلي علني يضطلع بمهمة المبايعة وتثبيت الملك وولي العهد، هي آلية جديدة لحل الخلافات الداخلية على السلطة وتحقيق التوافق الداخلي في العائلة المالكة. وتلزم الإشارة الى أن القرار الجديد يحيل مجلس العائلة غير المعلن الى إطار قانوني معلن، لتسوية الخلافات وشؤون الحكم بين كبار الأمراء، وقد يضطلع في المستقبل بمعالجة قضايا الخلافات بين الكبار.
الانتقال من التوافق الودي الى القانوني، بوحي من هيئة البيعة ذاتها، ينطوي على تعقّد الروابط داخل العائلة المالكة، في غياب شخصية نافذة تملك قدرة معنوية كالتي كانت لدى الملوك السابقين. وفي واقع الأمر يبدو أن مضمون الدور الموكل إلى الهيئة يشي بخلافات عميقة داخل البيت الحاكم إزاء مرحلة ما بعد الملك عبد الله، الذي يبدو أنه حسم السؤال حول منصب النائب الثاني بطريقة تمنحه إبراء ذمة من الأطراف كافة.
مهمة الهيئة، كما تقضي الفقرة الثالثة من مشروع نظام هيئة البيعة، مرتبطة بمرحلة ما بعد الملك عبد الله، وهذا يعني إقفال ملف القضية المتعلقة بتعيين نائب ثان للملك، باعتبار أن هذا التعيين سيكون من اختصاصات الهيئة الجديدة، التي يفترض أن تكون حافظة نموذجية للسلطة خلال المرحلة الانتقالية، قبل حسم منصب ولي العهد، مدار الخلاف في المرحلة المقبلة.
ولهذا فإن الهيئة ستكون أشبه بلجنة فض المنازعات أو الخلافات داخل العائلة المالكة، وخصوصاً بعدما بلغ أجل الصمت حيال منصب النائب الثاني للملك، ما يشير بقوة إلى أن خلافاً حال دون التوصل إلى تسوية مرضية حول الشخص المرشح والحائز إجماع داخل العائلة، الأمر الذي أدى الى صنع آلية جديدة تتكفل بثبيت هذا المنصب بعد مرحلة الملك عبد الله (82 عاماً).
ليس هذا فحسب، فقد توفر الهيئة آلية لصناعة التوافق داخل العائلة المالكة حيال القضايا الخلافية، التي تنبعث من نهاية كل عهد وبدء آخر، أو في حال إحداث تغييرات في المناصب، أو نشوب خلاف بين الكبار.
بمعنى آخر، إن الهيئة، وإن اشتغلت وظيفياً على اختيار ولي عهد للملك بدرجة أساسية، إلا أنها بلا شك تتجه تدريجياً كي تصبح مرجعية نهائية للعائلة من أجل تنظيم العلاقة في داخلها في ما يرتبط بشؤون العرش والحكم.