مارغريت بيكيت
تنشر «الأخبار» في ما يلي مقالاً بقلم وزيرة الخارجية البريطانية مارغريت بيكيت تعرض من خلاله الرؤية البريطانية لتسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لكونه «إحدى أولويات السياسة الخارجية البريطانية»

تأثّر الملايين من الناس في كل من لبنان والأراضي المحتلة وإسرائيل بأحداث العنف التي وقعت هذا الصيف. فقد أُجلي عدد كبير منهم، ورأوا بيوتهم وسبل عيشهم تتهدم. وأكبر مأساة هي أنه لا يزال الكثيرون منهم يعانون الصدمة النفسية الناجمة عن فقدهم لأحباء لهم.
وقد شعرنا في بريطانيا، ولا نزال نشعر بهذه الآثار شعوراً عميقاً. لذلك بذلت المملكة المتحدة جهوداً مكثفة من وراء الكواليس، ومنذ بداية الأزمة، للتوصل إلى وقف مستدام لإطلاق النار في أسرع وقت ممكن.
وكان طوني بلير هو أول زعيم عالمي يتحدث عن الحاجة إلى تشكيل قوة تابعة للأمم المتحدة تكون جزءاً من صيغة شاملة لسلام دائم. وفي يوم 11 آب، توجهت أنا إلى نيويورك للضغط بشدة من أجل الاتفاق على صيغة قرار يصدر عن مجلس الأمن وتطبيقه بسرعة.
واليوم سمح وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان لأولئك الذين تأثروا بأعمال العنف تلك بمعاودة بناء حياتهم. ومن ثم يتحتم علينا جميعاً الآن أن نركز جهودنا على ضمان عدم تكرار اندلاع مثل هذا الصراع.
ولا يمكننا أن ننسى أن غزة لا تزال تعاني من الواقع اليومي للخطر وعدم اليقين وانعدام الاستقرار. كما أن إغلاق المعابر وحالة الحرمان والقيود على حرية التنقل في الضفة الغربية تحرم سكانها أدنى شعور بممارسة الحياة الطبيعية. وفي الوقت نفسه، هناك إجماع واسع النطاق على حتمية أن ينطوي السلام في لبه على تسوية يتم التوصل إليها عن طريق التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لأن نوعاً كهذا من التسوية وحده من دون غيره قادر على توفير سبيل يمكننا من خلاله تحقيق هدف إنشاء دولة فلسطينية قادرة على البقاء وتنعم بالرخاء.
إن تسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني هي إحدى أولويات السياسة الخارجية البريطانية. ويأمل رئيس الوزراء طوني بلير، وأنا معه، أن تكون زياراتنا، التي قمنا بها أخيراً إلى المنطقة، بداية لعملية تضع إطاراً يحدو الأطراف إلى العودة إلى طاولة المفاوضات وتجاوز مرحلة الركود الراهنة.
قد نختلف على كيفية تحقيق هذه الرؤية، ولكن ليس هناك إلا قلة قليلة تختلف على ماهية هذه الرؤية بحد ذاتها. والعنف لا يسبب سوى تقويض جهودنا المبذولة من أجل تحقيق هذه الرؤية. إن أولئك الذين ينادون بتدمير إسرائيل تدميراً تاماً هم أقلية، ولكن تأثيرهم لا يزال يشكّل تهديداً يقوّض الجهود المبذولة لتحقيق السلام وخطراً يسبب المزيد من العنف العبثي. وما تنادي به هذه القلة لا يمكن أن يؤدي إلا إلى عقود أخرى من العنف والحرمان.
إنني مدركة تماماً أن غياب التقدم في ما يتعلق بهذه المسألة لا يزال يسمّم العلاقات ما بين الأطراف في المنطقة. كما أعلم جيداً أن إحراز تقدم هو المفتاح لمعالجة العديد من التحديات المعقدة التي تواجهها منطقة الشرق الأوسط بأسرها.
إن خلق مؤسسات حكومية كاملة الفاعلية هو أمر محوري لإقامة دولة فلسطينية. ولا يمكننا أن نتوقع أن تظهر هذه المؤسسات بصورة تلقائية بمجرد التوقيع على اتفاقية للوضع النهائي. لكن من خلال العمل الآن لتحقيق هذه الغاية، يمكننا المساعدة في شد أزر الفلسطينيين في المفاوضات التي تدور حول طبيعة تلك الدولة الفلسطينية.
لأجل هذه الغاية فإن المملكة المتحدة وشركاءها في الاتحاد الأوروبي يكثفون تركيزهم على التعاون مع الفلسطينيين لإحراز تقدم حقيقي تجاه تحقيق هذا الهدف، بالرغم من علمنا بالصعوبات التي تكتنف تبني مشروع كهذا في ظل استمرار الاحتلال. هذا ليس بديلاً بأي حال من الأحوال عن الجهود المبذولة للتوصل إلى تسوية نهائية، ولكن بالتحديد لكي تتوافر الظروف التي تجعل التسوية النهائية قابلة للتحقق.
ومن ثم، فإضافة إلى دعم العملية السياسية تعمل المملكة المتحدة على تطوير المؤسسات لدولة فلسطينية في المستقبل. فعلى سبيل المثال دعمت المملكة المتحدة الجهود المتعلقة بإصلاح القطاع الأمني، وشجعت على مشاريع لتحسين قدرات الوزارات الفلسطينية والشرطة لكي تتمكن تلك المؤسسات من العمل كأجهزة داخل دولة مكتملة النمو.
ونحن ندفع بقوة لضمان الفتح المنتظم للمعابر، التي هي بمثابة شرايين حيوية لحركة الأفراد والبضائع؛ كما نسعى بدأب لأجل تعزيز الأمن عند معبر كارني، لكي يتمكن الفلسطينيون من تصدير منتجاتهم من المحاصيل الزراعية. هذا الدعم العملي هو أمر حيوي من أجل تحسين ظروف المعيشة للعامة من الناس، وأيضاً لضمان أن تكون الدولة الفلسطينية المستقبلية كياناً فعالاً ونشطاً.
إلا أنه يمكن تعزيز قدراتنا على بذل الجهود لو كان المجتمع الدولي يتعاون مع حكومة فلسطينية تقبل بمبادئ نبذ العنف والاعتراف بإسرائيل والقبول بالاتفاقيات المبرمة سلفاً. فقد أدى رفض «حماس» العقائدي المتصلب القبول بالحاجة لتشكيل حكومة وحدة وطنية، إلى كبح جماح إحراز أي تقدم من أي نوع، بينما تسوء أحوال عامة الشعب الفلسطيني كل يوم عن سابقه.
لقد أظهر عدد لا يحصى من استطلاعات الرأي أن غالبية واضحة من الشعب الفلسطيني تقبل بحل إقامة دولتين. إلا أن حماس، التي لا يزال ميثاق تأسيسها ينادي صراحة بتدمير إسرائيل، لا تزال تحبط تلك الرغبة في قيام سلام دائم قائم على تسوية عبر التفاوض.
وأود هنا أن أعاود بشكل قاطع وجازم درء الأكذوبة التي تقول إن المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي فرضا عقوبات على الفلسطينيين. فقد قدّم الاتحاد الأوروبي للفلسطينيين هذا العام معونات بلغت أكثر مما قدمه في العام الماضي، حيث وصلت تلك المعونات إلى ما يناهز 850 مليون دولار. كما قدّمت المملكة المتحدة، وهي أكبر داعم أوروبي للفلسطينيين، في العام الجاري المبلغ ذاته الذي قدمته العام المالي المنصرم من معونات ( 57 مليون دولار )، وهذا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يُعدّ حصاراً مالياً!
وقد تزعمت المملكة المتحدة مسيرة تأسيس الآلية الدولية المؤقتة لمساعدة الفلسطينيين، حيث قدمت هذا العام مبلغ 165 مليون يورو من المساعدات للشعب الفلسطيني منذ شهر حزيران فقط، موفّرة الدعم لمحدودي الدخل من الفلسطينيين، ودفع أجور العاملين في قطاع الصحة، وتسديد فواتير الطاقة.
ولكن الجزء الأكبر من الميزانية الشهرية للسلطة الفلسطينية في الفترة التي سبقت شهر كانون الثاني الماضي جاءت من دخول تحصّلها إسرائيل لمصلحة السلطة الفلسطينية، وهي من حقها. يبلغ مجموع هذه الدخول نحو 55 مليون دولار أميركي شهرياً، ويمكن أن يؤدي الإفراج عن هذه المبالغ للسلطة إلى تحسن أفضل في الوضع المالي لميزانية السلطة الفلسطينية. ولقد دعونا إسرائيل إلى أن توجه هذه الأرصدة المُجمَّدة، التي تحتفظ بها للفلسطينيين، عبر الآلية الدولية المؤقتة.
إننا لا نطالب «حماس» بتقديم تنازلات في ما يتعلق بقضايا الوضع النهائي (وضع القدس أو اللاجئين أو حدود الدولة الفلسطينية المستقبلية)، فمن حقهم تقديم أي مطالبات يرغبون بتقديمها في ما يتعلق بهذه القضايا، بل لا يزال موقفنا هو أن حل هذه القضايا لا بد أن يتم بالتفاوض بدل أن يمليه أي من الطرفين أو أن يمليه المجتمع الدولي.
ولكن لكي تحدث المفاوضات وتكون ذات مغزى، لا بد من توافر أساس مشترك هو نقطة الانطلاق لها: وأعني بذلك أن الهدف هو حل قيام دولتين يمكن تحقيقه من خلال المفاوضات بين طرفين يعترفان ببعضهما اعترافاً متبادلاً.
عندما يفقد الناس الأمل في إمكان قيام سلام، تتوافر الفرصة لأولئك الذين لا يرغبون بإحراز أي تقدم بأن يفرضوا أجندة العنف والمواجهة والكراهية. ولا يؤدي العنف إلا إلى إذكاء مشاعر عدم الثقة والمعاناة الإنسانية، وإلى تأجيل عملية التحاور مع الطرف الآخر، وهي عملية رغم صعوبتها لا يمكن تجنبها من أجل التوصل إلى تسوية حقيقية.
نحن في المملكة المتحدة نعلم من خلال خبرتنا في أيرلندا الشمالية أن الطريق نحو السلام قد يتطلب بذل تضحيات مؤلمة من قبل كلا الطرفين، ولكننا نعلم أيضاً أن ثمار السلام أعظم بكثير من كل هذه التضحيات بمجملها. إن كلاً من الفلسطينيين والإسرائيليين على حدٍّ سواء يستحقون أن تتاح لهم الفرصة لتحقيق السلام. والمملكة المتحدة عازمة على دعم الطرفين لتحقيق ذلك.