strong>دخل إقليم دارفور السوداني بقوة اليوم إلى صدارة أزمات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لينضم إلى فلسطين والعراق ولبنان وإيران، فبات مشاركاً في مروحة الاتصالات الدولية المعنية في المنطقة. القضية حق، والأزمة تجاوزت حدود الكارثة، لكن الاهتمام، ولا سيما الأميركي، يثير الريبة، وتفوح منه رائحة النفط والصفقات والمصالح الاقتصادية، وهو ما يجعله باطلاً.صراع قبلي وعرقي وديني وفقر وضعف تنمية وسوء توزيع للثروة

حسام كنفاني

زحف القوات الدولية، الذي بدأ في لبنان، أصبح على أبواب دارفور بانتظار موافقة الحكومة السودانية، بناء على قرار مجلس الأمن الأخير 1706، الذي ينص على تحوّل قوات الاتحاد الأفريقي المنتشرة في الإقليم منذ العام الماضي إلى قوات أممية «تعمل على الحفاظ على الاستقرار في الإقليم وحماية سكانه من الانتهاكات».
قد يكون ما جاء في نص القرار بشأن الاستقرار والانتهاكات صحيحاً. وقد يظن كثير من المتابعين للقضية السودانية أن مجلس الأمن، اتخذ للمرة الأولى منذ سنوات قراراً ينصر «الحق».
لكن الدعم الأميركي غير المتناهي للقرار الجديد يثير الكثير من الريبة، ولا سيما أن واشنطن تتجه إلى ممارسة نفوذها هذه المرة لضمان تنفيذه، على عكس ما كان عليه الحال بالنسبة إلى قرارين مماثلين صدرا في وقت سابق من العام 2004. فالمعطيات على أرض الواقع السوداني والأفريقي، وحتى الشرق أوسطي، لم تكن متطابقة مع المصالح الأميركية في ذلك الحين، على عكس ما هو عليه الأمر في الوضع الحالي للمنطقة.
القراران الدوليان 1556 و1564، سبقا القرار 1706، إلا أن المختلف في القرار الأخير أنه يحمل في طياته عصا العقوبات، وملامح البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يخوّل القوات الدولية المزمع نشرها في دارفور حق استخدام القوة ضد ميليشيات الجنجويد، إضافة إلى الاضطلاع الدولي المباشر في الأزمة، وهو ما يعني أن قضية دارفور قد تشهد منعطفاً خطيراً سواء لجهة التصعيد أو الهدوء، مع ملامح الدخول في مواجهة مباشرة بين الحكومة السودانية والقوات الدولية، ولا سيما أن الرئيس السوداني عمر البشير حذر في أكثر من مناسبة باتباع نموذج حزب الله لمقاتلة القوات الدوليةالصراع في دارفور
جذور الأزمة الدارفورية ضاربة في التاريخ، إلا أنها لم تظهر إلى العلن بالشكل الحاد الحالي إلا في العام نيسان 2003، ومنذ ذلك الحين، حصد الصراع أكثر من 30 ألف قتيل وشرّد أكثر من مليون شخص في مخيمات اللجوء على الحدود التشادية، حيث يموت مئات شهرياً بسبب الجوع والأمراض.
لا يمكن إنكار مسؤولية الحكومة السودانية عن الصراع الدموي في دارفور، الذي تصفه الأمم المتحدة بأنه من أسوأ الأزمات الإنسانية في التاريخ الحديث، فقد سلّحت وأطلقت يد ميليشيات «الجنجويد» لارتكاب جرائم حرب بحق المدنيين، في حملة يمكن وصفها بالتطهير العرقي، رغم أن هدفها كان قمع الحركات الانفصالية، التي أخذت من الصراع في الجنوب أنموذجاً.
يغلب الطابع القبلي والعرقي على الصراع في دارفور، لكن لا يمكن تجاهل عوامل أخرى، قد تكون من أهم مسببات عدم الاستقرار الذي يهدد أكثر من منطقة في السودان، ألا وهي قضية التنمية غير المتوازنة، والتوزيع غير العادل للسلطة والثروة.
بداية الأزمة كانت في العام 1982، عندما انـــدلــع صــــراع مسلـــح بين قبائــــل الفـــور الأفــــريقيـة المسيحية في الجنوب والقبائل العربية المسلمة هدفه المعلن السيطرة على مصادر المياه، خلال مواسم الجفاف التي تعصف بالإقليم سنوياً. ودخلت تصعيداً خطيراً في العام 1989 مع انقلاب البشير وحسن الترابي وفرضهما نظام الشريعة على السودان، وهو الأمر الذي أدى إلى تمرد الجنوب برئاسة جون غارانغ.
المسؤولون الحكوميون في دارفور يتهمون القبائل الأفريقية بالتمرد على السلطة، فيما يتهم المتمردون، الذين تقودهم «حركة تحرير السودان» و«حركة العدالة والمساواة»، حكومة الخرطوم بدعم وتشجيع قبائل عربية في دارفور، لإجراء تطهير عرقي بحق جنوبيين أفارقة لجأوا من الجنوب إلى الإقليم هرباً من الاقتتال والمجاعة، مع ما رافق هذا الانتقال من تزاحم على مصادر الرزق.
وطرحُ المشكلة من زاوية «نظرية المؤامرة»، المتمثلة بالتدخل الأميركي والاسرائيلي في تحفيز التمرد والانفصال في دارفور، كما حاولت الحكومة السودانية الترويج، يجافي حقيقة المأساة التي يعانيها الإقليم والدم المراق بين الأطراف المتنازعة.
الأزمة في جوهرها مزيج من الفقر والحاجة إلى التنمية والتوزيع العادل للثروة، متبوعاً بالصراع القبلي على مصادر المياه خلال مواسم الجفاف بين العرب، الذين يعملون بالرعي، والأفارقة الذين يعملون بالزراعة، من دون إغفال العامل الديني بين المسلمين والمسيحيين، الذي غذته «ثورة الإنقاذ» بعد إعلانها تطبيق الشريعة الإسلامية.
ولعل ما فاقم مشكلة دارفور في التسعينات أن فترة الجفاف تزامنت مع لجوء الحكومة السودانية إلى تسليح قبائل الرعاة لمواجهة التمرد في الجنوب بقيادة غارانغ. وبحلول نهاية التسعينات، أصبح غرب السودان بؤرة أخرى للنزاع مع الحكومة المركزية، التي أطلقت يد الميليــــشيــــات الموالية لها، ضد سكان الإقليم.
أزمات تحت الرماد لا تزال تهدد السودان، ولا تقل خطورة عن دارفور، مثل قضية البجا في الشرق، والتي ظهرت بعد الإعلان عن اتفاق ابوجا منتصف العام الجاري بين فصيل من المتمردين الدارفوريين والحكومة السودانية، لكنها ما لبثت أن اختفت مع بيان فشل الاتفاق، الذي استثنى باقي الفصائل من الحل.
التدخل الدولي
وبالنظر إلى عمق الأزمة في دارفور، إضافة إلى الصراعات الأخرى في السودان، والتي كانت هامشية على طاولة البحث الدولي، يبدو الاهتمـــام العـــالمي المفاجئ في دارفور مستغرباً.
فخلال عقدين من الحرب في الجنوب، التي أزهقت أرواح قرابة مليوني شخص وشردت أربعة ملايين آخرين، لم يكن السودان على الخــريطــــة الدوليــــة والأميركية، فما الذي تغيّر؟
برزت أهمية السودان في الأعوام الأخيرة مع تصاعد الصراع على مصادر النفط، ولا سيما عندما طُور استخدام الثروات البترولية في السودان عبر إقامة أنبوب للنفط بطول 1600 ميل لينقل نفط الجنوب إلى ميناء بور سودان. ما جعل تحقيق الاستقرار وإنهاء الحرب الأهلية، بالنسبة إلى الدول الكبرى، ولا سيما الولايات المتحدة امراً ملحاً فضغطت للتوصل إلى اتفاق توزيع ثروات بين الشمال والجوب، وهو ما حفّز الأقاليم الأخرى على المطالبة بالمثل، ومنها حركات التمرد في
دارفور.
واضطرابات الغرب تزعج الولايات المتحدة، فهي تعرقل استقرار التسوية مع جنوب السودان.
كما أن النزاع في غرب السودان من شأنه أن يثير القلاقل في مناطق أخرى ويؤدي إلى اهتزار الاستقرار في البلدان الواقعة قبالة السواحل السعودية على البحر الأحمر، في الوقت الذي تسعى فيه واشنطن إلى تعزيز الحكومات المتحالفة معها في تلك المنطقة في إطار ما تسميه الحرب على الإرهاب.


إضاءات
كثيرون يجهلون الأزمة في دارفور وطبيعتها وجذورها، وحتى يجهلون الإقليم نفسه، الذي يحتل الخمس الغربي «للقارة السودانية»، ويعادل فرنسا في مساحته الجغرافية، وهذا ما يجعل صراع الانفصال أو التقسيم في الإقليم مجدياً من الناحية الطبوغرافية.
ويتألف إقليم دارفور من ثلاث ولايات يسكنها سبعة ملايين نسمة، وفق إحصاء أجري عام 1993. وخلافاً للميزان الديموغرافي في السودان، الذي يرجح كفة العرب (70 في المئة) على الأفارقة، تبلغ نسبة الافارقة بين سكان دارفور 60 في المئة، فيما تبلغ نسبة العرب 40 في المئة.
وينقسم الإقليم إدارياً ثلاث مناطق: شمال دارفور وعاصمته مدينة الفاشر، وجنوبه وعاصمته مدينة نيالا، وغرب دارفور وعاصمته مدينة الجنينة.


«جن على جواد»
«الجنجويد»، كلمة تترافق مع أي خبر يتناول الاشتباكات في دارفور، للدلالة على الميليشيات المسلحة. ورغم الاتفاق على تحميل هذه الميليشيا مسؤولة تأجيج الصراع في دارفور، فأن الاختلاف لا يزال قائماً على أصول التسمية. فغالبية التفسيرات ترجح أنها منحوتة من عبارة «جن على جواد»، التي كانت القبائل الأفريقية تهتف بها للتحذير من هجوم الميليشيا، ولا سيما أن المهاجمين يكونون ملثمين، واستخدامهم للجواد كان مستغرباً بين القبائل التي تعيش على الرعي والزراعة.
أما التفسير الآخر فيرى أن الكلمة هي مختصر لثلاث كلمات تبدأ كلها بحرف الجيم وهي: جن وجواد وبندقية «جي ثري» (G3)، التي يستخدمها مسلحو الجنجويد في هجماتهم.
ويربط تفسير ثالث التسمية بعربي من دارفور يدعى حامد جنجويت، كان يتزعم في ما يبدو المجموعة الأولى من الميليشيات، التي كانت تشن حملات ضد القرى الأفريقية في الثمانينات من القرن الماضي.


تحذيرات بين أنان والخرطوم
رأى الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان، بعد لقائه الرئيس المصري حسني مبارك في الإسكندرية أمس، أن قرار السودان طرد قوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الأفريقي من دارفور يترك ثلاثة ملايين نسمة ضحايا مكشوفين يواجهون الخطر.
وتابع “إنني أود أن تتحمل الحكومة السودانية مسؤولياتها تجاه تلك الأزمة لفرض الاستقرار والأمن فى دارفور”. وحذر من أن العالم سيحاسب الخرطوم على الوضع الإنساني في دارفور، إذا أدى عدم نشر قوات حفظ سلام دولية في هذا الإقليم الى إعاقة جهود الإغاثة.
في المقابل، حذرت الحكومة السودانية رسمياً بعثة الأمم المتحدة من تحريك قواتها المنتشرة في جنوب البلاد إلى إقليم دارفور. وقال وزير الدولة في وزارة الخارجية علي كرتي إنه أبلغ إلى نائب رئيس بعثة الأمم المتحدة لدعم عملية السلام تاي زريهون عدم تحريك القوات الأممية المنتشرة في جنوب السودان إلى الإقليم.
(أ ف ب، رويترز)