باريس ـــ بسّام الطيارة
من المعلوم أن الحدث يخلق الخبر. لكن إذا وُجد حدث وغاب الخبر ففي ذلك حدث يُوجب الخبر.
صدرت عن البابا بنديكتوس السادس عشر عودة إلى حديث تاريخي على لسان إمبرطور بيزنطي عاش منذ قرون، يمس الإسلام ومعتقد المسلمين. فكان الحدث.
تناولت الوسائل الإعلامية الحدث ونقلته خبراً دار حول العالم، وأثار ما أثاره من استهجان وردات فعل وطلبات اعتذار وانتقادات عبأت جعبة الأخبار.
أعاد الحبر الأعظم خلال مداخلتين وضع ما صدر عنه في سياقه وشدد على احترامه للإسلام وللمسلمين. واستجلبت موجة الاستنكار واعتذار البابا ردات فعل من الغريب أنها كانت «فاترة إعلامياً». هذا حدث بحد ذاته.
فرنسا هي تاريخياً الابنة البكر للكنيسة الكاثوليكية، لكنها أيضاً تاريخياً رائدة ثورة حقوق الإنسان وأم العلمانية التحديثية. وهي كذلك الدولة الأوروبية ذات نسبة السكان الأكبر من أصول عربية وإسلامية. ومن الغرابة أن هذا الحدث غاب عن طاولة التعليقات لدى غالبية رجال السياسة من الصف الأول.
الرئيس الفرنسي جاك شيراك دعا الى «تجنّب إثارة ما يمكن أن يضع الشعوب وخاصة الأديان في مواجهة بعضها بعضاّ». وكان مطلبه «حوار الثقافات والحضارات»، رافضاً التعليق على حديث البابا.
ولم نشهد تدافعاً من المرشحين للانتخابات الرئاسية للخوض في هذا الموضوع رغم أنه يمكن أن يشكل لهم «رافعة إعلامية» قوية جداً. فقط أحزاب اليمين المتطرف كان لها موقف. أعلنت «الجبهة الوطنية»، على لسان ابنة جان ماري لوبن ووريثته السياسية مارين، أن «البابا هو زعيم المسيحيين وله الحق في قول ما يريد». بينما تعجب فيليب دوفيليه، الذي يحاول إيجاد مركز له في أقصى اليمين، «من رد فعل (المسلمين) غير المتوازنة على أقوال هي موضوعية» وأن الجهاد «يجب محاربته من قبل كل من يحب السلام».
ومن الطريف أن ليونيل جوسبان قد تميز عن رفاقه الاشتراكيين بتصريحه بـ «أنه لم يكن واجباً على البابا الاعتذار»، وقد فسر البعض ذلك بسعيه «إلى العودة إلى واجهة الأحداث بأي ثمن كان».
هل تعلّم الطاقم السياسي في فرنسا (والعالم؟) الدرس من «حدث الصور الكاريكاتورية» الدنماركية وفضّل ترك العاصفة تمرّّ من دون تعليق وعدم إعطاء الحدث وردات الفعل على أخباره بعداً تنهال عليه التعليقات لتزيد من حدته؟ أم إن وضع فرنسا الخاص هو الذي يحتم على سياسييها الترفع عن الخوض في أتون هذا النقاش؟
يعطي بعض المراقبين تفسيرين بعيدين عن الساحة السياسية لغياب ردات الفعل في فرنسا.
يرتكز التفسير الأول على واقعية التناول الإعلامي الذي ضخم ما هو كناية عن مداخلة يصفها هؤلاء بأنها «حديث جامعي محض» في إطار أكاديمي، ويذكر هؤلاء أن ما ذكره البابا كان سبق ونشره عام ١٩٦٠ باحث ألماني لبناني الأصل يدعى تيودور خوري في كتاب عنوانه «حوار مع مسلم».
التفسير الثاني، وهو الأهم، يرتبط بشكل غير مباشر برغبة «جامعة» في الابتعاد عن «المجادلة السياسية» في ما يتعلق بالأديان وخصوصاً في هذه المرحلة الحساسة جداً، حيث ينعكس الحديث عن صراع الحضارات مباشرة على كل المسائل السياسية.
لكن لا يمنع هذا الأمر أوساط المثقفين من الغوص في التعليقات ونشر ردات فعل تثير ردات فعل أخرى، غير أن هذه الكتابات تظل في باب «اللا حدث»، على الرغم من أهمية بعضها في إثراء النقاش، طالما أن لا أخبار تتناقلها.