حيفا - فراس خطيب
الناصرة، مدينة البشارة، مدخل السوق القديمة. اليوم الثالث من رمضان. الشمس وسط السماء، حارة تخونها بعض النسمات الباردة لتذكر المارين: «الصيف انتهى»

المشهد في الناصرة بات اعتيادياً منذ أعوام. التجار يتكئون، كلٌّ إلى جانب بسطته صامتاً. يتحدث بحذر. في الأفق نغمات للحن عربي حديث. وصوت تاجر لم ييأس بعد، يصيح: «الثلاثة بعشرة»، وامرأة تقول بصوت أقل حدة: «بتسعة». يغضب ويرفض ويصمت. يقول: «بتسعة».
هناك في مكان ما وسط السوق المغلق نصفها، يقف شاب في العشرين من عمره، سحنته سمراء، قوي البنية، اسمه أيوب. كان أيوب خلف بسطة جوارب إلى جانبها ثلاجة مشروبات خفيفة فيها نوعان «عنب وبرتقال» وعلى ظهرها صحف. من ورائه خزانة بلاستيكية فيها «مرطبانات» عسل وبهارات. «الجوارب وحدها لا تكفي فزدنا العسل»، قال أيوب ممازحاً.
من وراء أيوب علقت صورة واضحة على باب الحانوت. صورة للطفلة الفلسطينية الأسطورة هدى غالية، التي فقدت عائلتها على شاطئ غزة بعدما قصف الإسرائيليون الشاطئ. دموع هدى أول ما يصرخ في الحانوت. ومن تحت وجهها كتب: «يا أمة العرب هل مت؟ هل هنت؟ في الماضي قامت كل الدنيا لامرأة صرخت وامعتصماه، واليوم ألوف يصرخن ويندبن. أنسينا العزة؟!».
يعيش أيوب في حي «الفاخورة». حي لا يتمتع بأفضل حال. يقول إن «الناصرة مدينة بالاسم. عندما أعود للبيت لا أجد ما أفعله. لا شيء سوى انتظار اليوم التالي، هل هذه مدينة؟ الوضع سيئ هنا لكن الوضع يختلف في الشكون».
ولـ «الشكون» قصة. «الشكون» بالعبرية يعني مبنى متعدد الطوابق. اسم لا يزال يطلقه أهالي الناصرة على مستوطنة نتسيرت عيليت التي بنيت شمالي الناصرة على أراضي أهلها. بدأت المستوطنة بـ «شكون»، لكنّها تعد اليوم 60 ألفاً. يسكنها عدد من العرب. وأهل الناصرة لا يزالون في مرحلة رفض قبولها.
السوق في الناصرة يعني وسطها ومركزها. السوق هناك لا يعني التجارة فقط، بل نهج حياة أيضًا. لا اسم للحي، اسمه السوق وشبابه شباب السوق، لا يمكن لهذا المكان أن يزول، حتى إذا زالت الحوانيت، فسيظل اسمه «حي السوق».
في وسطه يقع المسجد الأبيض، وعلى طرفه كنيسة البشارة، من أبرز معالم فلسطين التاريخية. ومن حوله حوانيت صغيرة وأزقة متفرعة يميناً ويساراً توصل في النهاية إلى المكان نفسه. وللمفارقة، السوق، من أفقر أحياء الناصرة. البيوت ليست بأحسن حال. وعندما تسأل أبو العز، الواقف إلى جانب أحد البيوت عن الوضع، يشير إلى أنه يقف هكذا منذ شهور، ويقول: «ماذا أفعل؟ عملت في شركة للحراسة. وطردونا أثناء الحرب الكلاب. من وقتها وأنا واقف هنا».
ويضيف أبو العز: «في مثل هذا اليوم قبل سبع سنوات (قبل الانتفاضة) كانت الحياة أفضل. كانت الناصرة أجمل. كان الناس يحتمل بعضهم البعض، ولكن انظر اليوم، لا أحد يلقي السلام على أحد. الوضع سيئ في السوق. السوق خالٍ، تخيل، في رمضان هكذا، عتمة».
الناصرة هي المدينة العربية الكبرى، «عاصمة فلسطينيي الداخل» بعد القدس المحتلة. لها حصة في التاريخ. لها حصة في مجتمع الداخل. هي المدينة الأكبر وصاحبة المعالم الأكبر. هنا عاش المسيح، هنا كنيسة البشارة. وهنا المسجد الأبيض. هنا تربت نسبة كبيرة من قياديي الفلسطينيين في الداخل. يسكنها أكثر من 70 ألفاً، غالبيتهم من اللاجئين الفلسطينيين من قرى فلسطين التي هدمت أثناء النكبة في العام 1948. الناس يعيشونها بأوضاع متفاوتة. فيها أحياء فقيرة وأحياء غنية. فيها حي الورود في أعلاها والصفافرة في أسفلها. فيها الحارة الشرقية والمطران والروم والفاخورة وبير الأمير وجبل الدولة والسوق. لكل حي ما يميزه، لكنّ الاكتظاظ والتراصّ صفة تميز الأحياء قاطبة.
كان أبو طارق، صاحب مكتبة صغيرة، جالساً على باب حانوته يقرأ كتاب «أرنستو تشي غيفارا، الأعمال الكاملة». إلى جانبه الايمن أباريق قهوة فلسطينية قديمة وتطريزات غزاوية فلسطينية من صنع يدوي. أشار أبو طارق بيده إلى الأباريق قائلاً: «هذا قسم السائحين ولا يوجد سائحون» والتفت يساراً وقال: «هذا قسم الكتب وشعبنا ليس قارئاً. نحن شعب لا يقرأ. تفسير الأحلام والأبراج والتداوي بالأعشاب هي الأكثر طلباً»، يضيف أبو طارق مبتسماً، ويتابع: «الناس متعبون، يريدون من يداويهم ويبعث فيهم قليلاً من الأمل».
الخروج من السوق العتيقة يعني الدخول إلى شارع «كازانوفا»، وهو من الشوارع الجميلة العريقة في الناصرة. تمتد على جانبيه الحوانيت السياحية في موسم السياحة. أطفال يبيعون كعك السمسم وبسطات صغيرة تخرج منها التراتيل والتهاليل مع حلول رمضان. لكن «الكازانوفا» خالٍ أيضاً.
هنا، وفي هذا المكان نفسه، وفي الرابع من آذار الماضي، دخل رجل يهودي وزوجته كنيسة البشارة متخفيين بزي رهبان. بعد دقائق، ألقيا قنابل صوتية وغازية على من كان هناك. كان دوي القنابل كفيلاً بأن يهز صمت المدينة وسكانها الذين تراكضوا نحو الكنيسة مخترقين بابها. قوات كبيرة من الشرطة أتت وفرقت الحاضرين وخلصت المعتدي من أيدي شبان الناصرة. الدولة اهتزت. الشرطة احتجزت الزوجين. بعد فترة أطلق سراحهما والحجة إسرائيلية معهودة: «الرجل معتوه» تماماً مثلما كان الإرهابي الذي قتل سبعة عمال فلسطينيين في العام 1992 في ريشون لتسيون معتوهاً.
كادت الناصرة أن تسقط ذات يوم في جب الطائفية. في أواخر التسعينيات، تطور خلاف بين الحركة الإسلامية وبلدية الناصرة على مقام «شهاب الدين» القريب من كنيسة البشارة. الخلاف احتدم قبيل مجيء البابا يوحنا بولس الثاني إلى المدينة. الخلاف وقع على بناء مسجد. أرادت الحركة تخطيطاً أثار حفيظة البلدية على جزء منه. الخلاف تطور والسلطة الإسرائيلية تدخلت بالسر وأشعلت بطرقها المألوفة فتيل الخلاف. الخلاف وصل إلى الشارع واشتعل «البلد». والاشتعال ليس سهلاً. نصف البلد مسلمون والنصف مسيحيون، وكأنها توأم لبيروت. انقسمت المدينة إلى شرقية وغربية، تماماً مثل بيروت. شجارات وشغب وانتقام والسلطة تشعل الفتيل أكثر. كان واضحاً أنّ هذه المدينة لن تعود إلى طبيعتها ذات يوم. لكن الأمور هدأت. القيادات الفلسطينية في الداخل تدخلت بعقلانية وكانت صلبة أمام الامتحان. وانتهى النزاع. اليوم، بعد مرور أعوام على الأحداث، يتباهى أبو محمد، أحد سكان الحي الشرقي قائلاً: «عندما قام اليهود بالاعتداء على كنيسة البشارة، كان المسلمون أول من تصدى لهم».
النهار ينتهي في السوق، نصف المحال التجارية قد أغلقت أبوابها والنصف الآخر يمنح الحياة فرصة. البلدة، التي اكتظت قبل أعوام بالسياح الآتين من الغرب، لا تتكل اليوم إلا على أهلها. قال رجل من المدينة: «عند مجيء السياح إلى المطار يشرحون لهم أن الفنادق ممتلئة في الناصرة فلا يأتون. يحجزون لهم غرفاً في حيفا أو طبريا مبتعدين عن الناصرة».
الخروج من السوق يعني الدخول إلى مركز المدينة. أصبحت أزمات السير ما يميز هذا المركز. وكذلك الشحاذون، أصبحوا جزءاً من المشهد «النصراوي» الصعب في هذه الأيام.
الخارج من المدينة لا يتشوق للعودة اليها، لكنه يعود بإرادته مع كل مناسبة وطنية. عند العودة، وعلى باب أحد المتاجر المغلقة منذ زمن، كتب بلون أسود تصعب قراءته: «ارفعوا أيديكم عن بيروت وغزة»، وعلى باب آخر كتب «الناصرة يا ركن الجليل».