الناصرة ــ فراس خطيبتعيش المدن العربية في إسرائيل أيضاً فرحة العودة بعد النزوح، مع إعلان وقف النار، على عكس المناطق الإسرائيلية، التي لا تزال تخشى انهمار الصواريخ. إلا أن فلسطينيي 48 يعودون بفخر ليناقشوا «الضربة» التي تلقّتها إسرائيل في لبنان، ويعيشون اليوم مطمئنّين، لأن إسرائيل قد لا تفكر في تكرار المحاولة لاحقاً. الظهيرة الأولى بعد اتفاق وقف النار في قرية مجد الكروم، لا أحد يسارع إلى مزاولة حياته الطبيعية هناك. المحالّ التجارية عادت إلى العمل، لكن ليس كالمعتاد. الشوارع تشهد حركة سير، لكنّها خفيفة.

تقع مجد الكروم على بعد مئات الأمتار شمالي مدينة كرمئيل المقامة أصلاً على مساحات صودرت من القرى العربية المحيطة بها. لا يزال أهالي مجد الكروم يطلقون على الحديقة العملاقة في كرمئيل اسم «حاكورة راضي»، لأنَّ أصلها يعود إلى أحد سكان القرية واسمه راضي. عُرفت القرية بكروم الزيتون، لكنّها الآن لا تملك من الكروم شيئاً. يسكنها 10 آلاف ويزدادون من عام إلى آخر، لكنَّ مسطحها بقي كما هو، وهدمت السلطات قبل اندلاع الحرب بفترة وجيزة ثلاثة مبانٍ بحجة «البناء غير المرخص».
سقطت الكاتيوشا الأولى عليها في أيام الحرب الأولى. تعاطت القرية مع القصف كأنه «لن يعود ثانية»، غير أنه عاد بالعشرات، «لكنَّ هذا لم يزحزح لومنا لإسرائيل»، قال أحد السكان طالباً عدم ذكر اسمه.
في أحد مطاعم القرية المتضررة من القصف، عاد صاحب المكان إلى العمل، لكنَّ ضجة الأخبار المصاحبة لعودة النازحين إلى الجنوب اللبناني، وأصوات معدّات الترميم الثقيلة المختلطة بنقاش بعض شبان القرية، لا تترك للاعتيادية مكاناً. كان النقاش صاخباً بينهم، ليس نتيجة اختلاف آرائهم، بل لاتفاقها. يريد كل واحد منهم أن يثبت أكثر من الآخر «كم قوية تلك الضربة التي تلقّتها اسرائيل». ويضيع المطعم بين النقاش والترميمات.
يقف صاحب المكان إلى جانب المرممين على بعد ستة امتار تقريباً من الصاروخ الذي قلب حياة القرية، صاروخ خلَّف شهيدين. كان صاحب المطعم أول من هرع إلى انقاذهما، لكنّه لم يفلح. يقول «ما رأيته سيرافقني دهوراً... هذه الدولة لن تكفّ عن الحروب». ويبدو متأكداً من أنَّ وقف النار سيستمرّ «ليس فقط لأنَّ السيد حسن نصر الله صادق، بل لأن اسرائيل تريد وقفاً للنار، هي من يريد هذا، هم المضغوطون لا حزب الله».
الخروج من مجد الكروم يعني دخول قرية دير الأسد. وهي القرية الثانية الواقعة على محور «الشاغور»، الذي يضم القرى الواقعة شمالي كرمئيل. الناس في دير الأسد لا يتحدثون كثيراً عن موضوع القصف. وهذا ما يبدو واضحاً في بيت العزاء بشهيدي القرية، أم وطفلها.
كان بيت العزاء مفتوحاً لثلاثة أيام، لكنه ظل منصوباً تسعة أيام. في مدخله، يجلس خمسة رجال، بينهم جد الطفل. كل ما يتنماه هو استمرار وقف النار. يقول «حرب زائدة لا يقوى عليها احد». وعندما تسأله هل تلوم احداً؟ يتنهد ويقول «خليها لله».
ما حصل في دير الأسد هو علامة مؤلمة، لكنَّ عزاء أهالي القرية أن الفقيدين في عداد الشهداء. يتصرفون هكذا، وعيونهم تقوله أيضاً، غير أنَّهم يقللون من حديثهم للإعلام. ويعتقدون بأنَّ أفضل الأمور «الصمت».
الوصول الى جنوبي المدينة، يعني دخول كرمئيل، التي لا تزال تعيش الحرب كما كانت بالأمس، لا تزال الحوانيت مغلقة ومواقف السيارات فارغة. حتى مركز المدينة المشهور «بهيجانه» مغلق، لا يشهد حركة سوى من خمسة أو ستة أشخاص يمشون بجانب الطريق، سرعان ما تكتشف أنهم عرب.
يسكن كرمئيل اكثر 60 الفاً، غالبيتهم نزحوا إلى المركز مع بداية الحرب. لم تشهد المدينة مع وقف النار عودة للنازحين كما شهدت نزوحاً عند اندلاع النيران. لا تستقبل المدينة وقف النار بحفاوة، ولا تزال صامتة، خصوصاً أن الضربات التي تلقّتها كانت كثيرة تصل الى حد «مطر الصواريخ».
المقهى الوحيد المفتوح يقع في احد مراكز المدينة المغلقة. صاحبه يهودي يسكن «كفار هفرديم» (قرية الورود بالعربية)، التي تعرضت للقصف هي أيضاً. عاد المقهى إلى العمل اليوم، لكنَّ 90 في المئة من لائحة الطعام غير موجود. اسمه «مقهى الاحلام»، لكن لا قهوة فيه: «آسف، اليوم عدنا إلى العمل بعد شهر». وعندما تفتح سيرة الحرب، يمتقع لونه: «دمرتنا الحرب، كانت زائدة لا حاجة لنا بها، لم نجن منها شيئاً».
الأجواء ليست اعتيادية. كُتب في اعلى المكان: «مكيف هوائي»، لكنَّ الحر يعمّ المكان. إلى جانب الطاولات، توجد ماكنة سجائر لكنها فارغة. وبدل الموسيقى التي تحتل هذه الأماكن عادة، كانت إذاعة الجيش الاسرائيلي تدوي. اعترف الاسرائيليون بمقتل جنديين آخرين قتلا بالأمس. أنهت المذيعة الخبر، وبدأت الأغنية الرائجة في اسرائيل في هذه الايام: «الطريق ليست سهلة... الطريق صعبة».