strong>أربعون عاماً من الاحتلال الإسرائيلي للجولان السوري، لم تفقد خلالها هذه الهضبة هويتها العربية رغم المحاولات الإسرائيلية المتواصلة. آثار معارك حرب عام 1967 لا تزال ظاهرة في قرى الهضبة المحتلة، لتذكّر بأن الوضع القائم ليس أساسياً، إنما مرحلة ستطوى مهما طال الزمن.
الجولان المحتل ــ سعيد الغزالي

جولة «الأخبار» في الجولان المحتل بدأت في قرية الخشنة، حيث صعد مستوطنان أحدهما مسلح ببندقية «إم 16»، برفقة فتاتين، درج مئذنة مسجد القرية، المزنرة بشرفتين، العلوية منهما مدمرة جزئياً.
كانت المئذنة من دون هلالها، وآثار الرصاص والقذائف تطرز واجهاتها المشيدة من حجارة البازلت المائلة إلى الحمرة، وهناك فجوات كبيرة في جدران المسجد المشيد بحجارة سوداء. وهناك رسوم وكلمات باللغة العبرية، مثل «حيوانات»، «حزب ديكل»، «مساعدة 51»، كلمات قد لا تعني شيئاً، لكنها تغطي واجهة مسجد لا تقام فيه الصلوات. مسجد أصبح مهجوراً، أصبح مكاناً يعبث بهالعابثون.
لا شيء يدل على أن سوريا، وجيشها كانا في هذه البقعة، لكن الدمار المتصدئ بفعل السنين يدل على حدوث قصف جوي دمر مساكن إسمنتية، وبيوتاً قديمة متناثرة من الحجارة البازلتية، بعضها لا تزال تحمل على أكتافها بقايا سقوف قرميدية.
يقع المسجد على حافة طريق رقم 87، الذي يشق وسط الجولان. هناك هيكل لبناء قد يكون مدرسة. وهناك سهول ممتدة، مزروعة بالحبوب. وهناك أشجار تين وكرمة.
حلت المستوطنات مكان القرى المدمرة. وحمل بعضها أسماء منحوتة من أسمائها العربية السورية. هناك قطيع من البقر يرعى في الحقول. ومجموعة من الشبان المستوطنين يقودون جرارات حراثة في السهول الممتدة المجاورة لبلدة الخشنة.
يقول أهل الجولان من القرى الدرزية الأربع الباقية، إن الخشنة كانت بلدة يسكنها أكثر من 1900 نسمة. يتذكرون أنها كانت مشهورة بصناعة القبعات والعربات الزراعية، وكانت تعج بالنشاط التجاري، لمركزها في وسط الجولان.
يذكر الجولانيون، وخصوصاً كبار السن، أسماء القرى التي قد لا تعني كثيراً لمن يسمعها أول مرة، لكنها تعني الكثير لأهلها وأحفادهم. أكثر من 100 ألف سوري شردوا خلال حرب عام 1967.
الخشنة هي واحدة من 18 قرية مدمرة من الجولان المنسي. شيدت إسرائيل مستوطنات يصل عددها إلى ثلاثين، أقامت معسكرات تدريب، ومراكز عسكرية، زرعت مناطق بالألغام. استغلت ثروتها المائية التي تقدر بـ 12.5 مليون متر مكعبوموقع هضبة الجولان الاستراتيجي يجعلها صلة وصل بين لبنان وسوريا وفلسطين والأردن. كانت ضمن الحدود التي رسمها ديفيد بن غوريون، مؤسس الدولة العبرية. وتكرر ذكرها في المطالب الصهيونية منذ بداية القرن الماضي.
في هذه الأيام، يجلس الجولانيون في بيوتهم هادئين. يجنون التفاح من حقولهم في الموسم، ويعملون في ورش البناء والزراعة في مستوطنات الهضبة وإسرائيل. وفي المناسبات الوطنية، يرفعون العلم السوري، ويرددون النشيد الوطني «حماة الديار عليكم سلام». ولا يخلو بيت في الهضبة من شعار النسر السوري.
هناك مؤشر يدل على التغلغل اليهودي في الجولان. تحمل المحلات التجارية في القرية لوحات مكتوبة باللغة العبرية، إلى جانب العربية. والناس هناك يتحدثون بالعبرية والعربية حتى مع بعضهم. يلاحظ سلمان فخر الدين، أبرز المشتغلين بالسياسة في الجولان، ضمور الوعي السياسي لدى غالبية الجيل الجديد، الذي يبتعد عن قضايا الوطن. ولهذا حرص فخر الدين على إرسال ابنه تحرير للعمل في مؤسسة إعلامية فلسطينية في رام الله.
المد الاستعماري الإسرائيلي بدأ يصيب الفئة الشابة في الجولان، حيث بدت علامات تراجع لتأثير التيار الديني الدرزي، فانتشرت صالات البلياردو، وتخلت الصبايا عن لباسهن التقليدي، واستبدلن به ألبسة غربية. وتقول ربة البيت نجوى أيوب إن الجولان يشهد ثورة على التزمت الديني بين صفوف الشباب. وتتابع قائلة: «إن الجيل الجديد لا يريد أن يعيش كما عاش أهاليهم».
ربما كانت إطاحة بعض العادات التقليدية المذمومة أمراً محموداً، لكن الوعي القومي بين جيل الشباب، ليس من أولويات الجيل الجديد الذي يئس من الانتظار.
ويبقى سؤال يحمل في طياته خشية من أن تصبح القرى العربية الدرزية على الشريط الحدودي مع سوريا منسية إلى الأبد. القرى إلى اليوم بقيت متمسكة بموقفها القومي، فإلى متى ستبقى صامدة في وجه المد التهويدي الثقافي والإعلامي والاقتصادي؟
الجولان المنسي يواجه أعتى حملة إسرائيلية لإلغاء ثقافته العربية، لكن شيئاً من المخزون الثقافي لا يزال يرفض الانخراط في تغريبة أبدية. فهل سيبقى سيف سلطان باشا الأطرش مرفوعاً بوجه إسرائيل؟




يتمنّون التحرير . . . و«لكن»
أهل الجولان يرغبون ويتمنون التحرر، وأن يعود المشردون إلى ديارهم، لكنهم يشعرون بأن النظام السوري «غير جاد على الإطلاق بتحريره». مع ذلك، لا يتخلون عن رموز انتمائهم إلى سوريا والعروبة، ويتابعون بشغف أحوال تفاصيل الدول العربية المحيطة بهم، حتى إنهم يبدون آراء في «الأكثرية» اللبنانية والمواجهة بين إسرائيل وحزب الله.
في صدر حانوته المخصص لبيع المدافئ من صنع سوري، علق علي مرعي (66 عاما) صورتين، واحدة للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، وأخرى للرئيس جمال عبد الناصر. وفي بناية مطلة على ساحة النصب التذكاري لقائد الثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش يمكن رؤية أشلاء من علمين سوريين تضربهما الريح القوية. يقول مرعي، الذي كان ضابطاً في الجيش السوري، بأسى، إن «سوريا غير مستعدة لتحرير الجولان عسكرياً، غير جاهزة. بالسياسة يمكن ترجعها».
«لماذا»، هو السؤال، الذي لم يكن الرجل يرغب في الإجابة عنه، لكنه يقول إن «سوريا فيها انقسام، وتشرذم، وطائفية. لذلك فهي غير جاهزة لتحارب».
ويعتقد سلمان فخرالدين، أبرز المشتغلين بالسياسة في الجولان، بأن الحرب بين حزب الله وإسرائيل كانت «متعادلة»، ويوضح «رطل مقابل رطل. والرابح من يمتلك الأوقية الراجحة».
ولا يظنّ فخر الدين أن سوريا ستحصل على النصر، بعد الحرب السادسة. يقول إن «النصر ثمن الحرية والنضال. وأي عنصر من العنصرين، حرية الشعب وإرادة التحرير، غير موجود في سوريا». يضيف «سوريا في موقع المواجهة، ولكن سلوكها يعني أنها واقفة بين المواجهة والمقايضة. سوريا غير جاهزة للتحرير، وغير جاهزة للسلام».
وعن حزب الله، يقول فخر الدين إن «حزب الله فوجىء بالرد الإسرائيلي. كان سلوكه يدل على أنه كان مستعدا للحرب». وهو يظنّ أن الحرب أنهت دور ما يسمى بـ«بالاكثرية» في لبنان. يتابع «وليد جنبلاط وسعد الحريري ليس لهما مستقبل. كلهم يفسرون الواقع، لا يتكلمون عن بناء المستقبل في لبنان».


لم يستسلموا.. بشهادة سلطان باشا الأطرش>/strong>
لم تكن جبهة الجولان هادئة خلال سنوات الاحتلال الأربعين، فأهلها لم يستسلموا لمخططات التهويد والاستيعاب، التي حاولت سلطات الاحتلال فرضها عليهم عبر حكومات إسرائيلية متعاقبة.
فقد خاض الدروز العرب أطول إضراب دام ستة أشهر، قاوموا فيه محاولة الجيش الإسرائيلي تطبيق قرار الكنيست الإسرائيلي فرض الجنسية الإسرائيلية عليهم بشكل جماعي في عام 1982وقد فرض شيوخهم حرماً دينياً على من حصل على الجنسية. ووطّدوا، على مدار عقود، علاقات قوية مع فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وخصوصاً اليسارية ذات البعد القومي، لإبقاء الأجيال المتعاقبة على اتصال مباشر مع القضية المحورية العربية، والتعرّف على مدى ارتباطهم بها.
وفي إشارة إلى مدى ارتباطهم بسوريا والتاريخ الثوري، ينتصب في وسط قرية الخشنة تمثال لسلطان باشا الأطرش، الذي قاد معركة ضد السلطنة العثمانية، التي كانت ترغب في إخضاع جبل العرب لسيطرتها، وأُعدم شنقاً في عام 1911.
سلطان باشا الأطرش، يقف في وسط القرية محاطاً بجنوده، شاهراً سيفاً على العدو الإسرائيلي، تجسيداً للمقاومة غير العنيفة التي خاضها الجولانيون.