القدس المحتلة ـــ سعيد الغزالي
من يتجوَّل في مدينة القدس، في أي مكان فيها، يرَ جداراً من الإسمنت المسلح والأسلاك الشائكة داخل حدودها ووسط شوارعها وعلى أطرافها من كل الجهات.
من لا يعرف شيئاً عن تاريخ هذه المدينة المحتلة، والصراع الدائم فيها، ويرَ هذا المشهد الغريب من الجدران، والطرق الالتفافية، والبوابات الحدودية، والمعازل السكانية، سيظن أن مخططي المدينة مجانين، عبثيون، ولا معنى لكل إجراءاتهم.
يظهر مشهد المدينة خلف الجدار معازل سكانية على أطرافها شمالاً وجنوباً، غرباً وشرقاً، فيما فُكّ ارتباط سكانها المعيشي والحركي بالمدينة، وأعيد ربطهم بالضفة الغربية عن طريق شوارع التفافية ومعابر حدودية. ومن يشاهد المدينة من طائرة تحلق في سمائها، يرَ قرى وتجمعات سكانية من العرب قد تحولت إلى جزر معزولة تماماً.
هذا التغيير الهائل يُكرَّس يومياً من قبل سلطات الاحتلال، باستكمال بناء البوابات والمعابر الحدودية، فيدمر الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، ويحاصرهم في معازلهم، ويُصعِّب حركتهم من منطقة إلى أخرى ويعطي إسرائيل القدرة المطلقة على السيطرة على وجودهم.
هذا ما جرى خلال فترة لا تتجاوز ثلاث سنوات. تضاف إلى ذلك الأحياء الاستيطانية التي شيدت منذ بداية السبعينيّات، نمت وتمددت كالسرطان بين الأحياء والقرى العربية داخل المدينة، وعلى أطرافها، محولة هذه الأحياء إلى جزر داخل النسيج الإسرائيلي المتفوق عددياً بنسبة تزيد على 75 في المئة عن المواطنين العربلقد تمكنت إسرائيل من إخراج نحو 180 ألف من حملة الهوية الفلسطينية «المقدسية» إلى خارج القدس، بعدما قطعت صلاتهم المعيشية بالمدينة.
هاجر الكثيرون، وخصوصاً التجار وأصحاب المصانع، إلى مصر والأردن باحثين عن حياة جديدة خارج الأقفاص. ولم يبق من المقدسيين أكثر من ثمانين ألفاً جرى عزلهم عن محيطهم في الضفة الغربية، فانكمش رزقهم وارتدّت معيشتهم. ويفرض على هؤلاء، ولاسيّما غير القادرين على مغادرة المدينة من العمال والموظفين الصغار، تحمُّل صنوف الضغط الاقتصادي والضريبي، في ظل غلاء فاحش وتضاعف الإيجارات وأسعار الشقق، لندرتها، إلى أربعة أو خمسة أضعاف.
والقليل رأى خلاصه في الحصول على «الجنسية الإسرائيلية»، بعدما تمكنت إسرائيل من اجتثاث المؤسسات الفلسطينية، فأغلقت بعضها، وطردت البقية إلى رام الله.
ومن ينظر إلى خريطة القدس بعد إقامة الجدار، الذي لا يزال العمل جارياً فيه، فلا بد له أن يستنتج أن الكلام عن القدس العربية كـ«عاصمة للدولة الفلسطينية» ليس أكثر من كلام عبثي، لا معنى له. فالقدس أصبحت جسداً مقطّع الأوصال. ويشعر الفلسطينيون الذين يعيشون في المعازل بأنهم أصبحوا كـ«الخراف» المحشورة في حظائر، لا تملك حرية التحرك من مكان إلى آخر، مما شجع الكثيرين على التفكير في بدائل الهجرة إلى أي مكان آخر.
هذا الوضع الغريب يحطّم المعنويات ويدفع الكثيرين الى ترديد شعارات اللوم والإدانة بحقّ من فرّط بالمدينة المقدسة على مدى العقود الماضية.