strong>في مفترق «أبو ديس» قرب القدس المحتلة، مشهد سوريالي. لكنه ليـس خيـالاً، بل واقع من غرائب الاحتلال. معازل وقرى وحصار لا يلغي التواصل، مهما حاولت سلطات الاحتلال، فالارتباط بين القدس ومحيطها أكبر بكثير من مجرد أرض، إنه ضارب في جذور لا تفهمها إسرائيل، ما دامت جذورها غير موجودة في الأرض المحتلة.
القدس المحتلة ــ سعيد الغزالي

كان مفترق القدس أبو ديس ــــ العيزرية مركز التلاقي، يجمع أهل المدينة والفلسطينيين القادمين من الضفة الغربية، من أقصى شمالها في جنين إلى أقصى جنوبها في قرى الخليل الحدودية.
كان هذا التلاقي بين المقدسيين الهاربين من جحيم الضرائب، وندرة المساكن في القدس، مع الضفاويين الفارين من جحيم العوز والانتفاضة، عاملاً رئيساً في الانتعاش الاقتصادي الذي شهدته قرية العيزرية، منذ بداية الانتفاضة عام ألفين.
كان المفترق يعج بالناس، ويضج حياة. كان شريان التواصل الانساني والجغرافي. لكن قطع الشريان بسكين الجدار قبل أربع سنوات.
أقيم جدار إسمنتي ارتفاعه ثمانية أمتار، يتلوّى كالحية بين البيوت والحوانيت، فاصلاً القريتين عن القدس، ومدمراً الحياة الاقتصادية والاجتماعية على الجانبين.
في مقاطع الجدار الممتد من الشرق إلى الغرب بين القرى العربية، المتلوي صعوداً وهبوطاً بين البيوت، والمزارع، يفصل الحائط الإسمنتي فصلاً تعسفياً المنطقة الواحدة، تماماً كمن يبني جداراً عازلاً بين غرفة النوم والحمّام في البيتمن يقيم جداراً داخل بيته لا يمكن وصفه إلا بالجنون. لكن إسرائيل فعلت ذلك، ليس في بيتها، بل في بيت الفلسطينيين، لإحكام سيطرتها عليهم، ونهب أرضهم وممتلكاتهم، وتحويل حياتهم إلى جحيم، يجبرهم على الرحيل.
هل هناك سوريالية في هذا الوضع؟ ما هي خيارات الفلسطينيين المطوقين بالجدار، والجنود الرابضين على صدورهم؟
جاءت وفود كثيرة من العالم. بعضهم فنانون. عبروا عن الوضع السوريالي برسوم. رسم لشخص يمزق الجدار بيديه، فتطل الشمس من الجانب الآخر. رسم أسد متوحش يفترس بأنيابه حمامة. وآخر لفضاء أزرق وشاطئ بحر ورمال، وثالث لأولاد يلهون بطائرات ورقية. ورسم لساعد عملاق يقبض على حجر. وسهل من أزهار عباد الشمس.
يربط شعار مكتوب باللغة الإسبانية بين المقاومة والوجود: «لا وجود لمن لا يقاوم».
يمر شارع القدس ـــ عمان عبر قرية العيزرية، إلى جانب قرية أبو ديس.
قبل بناء الجدار في المفترق، كان الشارع يعج بالعمال للعمل في القدس. إلا أنه لم يبق من المئات إلا أبو أحمد. اختفى أصحاب السيارات العمومية الذين كانوا ينقلون العمال والمواطنين إلى مناطق الضفة الغربية كافّة. أغلق بائع الخضر والفواكه، الذي كان يجلب الخضر من مدينة أريحا ومناطق الأغوار، محله الكبير.
كان هناك مقهى صغير، وجد صاحبه عملاً آخر في بيع الكعك في الجانب الآخر من الجدار. انتقل صاحب حانوت للصرافة إلى مكان ما في القدس، وربما أصبح عاطلاً عن العمل.
لا يعرف أحد مصير الحاج أبو إسماعيل تاجر مواد البناء والإسمنت. صاحب المنجرة أبو رياض أصيب بجلطة دماغية أقعدته في البيت. طبيب الأسنان بهاء أغلق عيادته وانضم إلى صندوق المرضى الإسرائيلي «كوبات حوليم». أبو فيصل تاجر الأثاث المنزلي انتقل إلى القاهرة ليمارس التجارة فيها. وكان مصير محمد إزحيمان صاحب السوبر ماركت مجهولاً.
لم يبق في المكان إلا بائع الدجاج نضال أبو سرية (39عاماً) صاحب دكان «الديك الفضي» في النصف الآخر من الشارع المغلق.
كان الدكان مفتوحاً. لم يكن في الشارع متجولون. ولم يكن لديه حتى دجاجة واحدة في ثلاجتين كبيرتين فارغتين تماماً، وجدت الصراصير فيهما مرتعاً وملجأً.
لكن أبو سرية يأتي كل يوم، يفتح مصراعي الباب الحديدي ويجلس أمام حانوته يحملق في الجدار. يقول إنه ينتظر أن يأتيه الفرج. لكنه لا يعرف من أين سيأتي الفرج. ويقول بسخرية يخالطها اليأس: «إسأل إسرائيل. إسأل الزعماء العرب».
في أعلى التلة، كان فندق «كليف» محطم النوافذ. أقيمت في ساحته نقطة مراقبة عسكرية. كان عامل البناء أبو أحمد، يجلس القرفصاء على مقربة من الجدار. جاء من قرية الشيخ سعد المجاورة، محاولاً دخول مدينة القدس عله يجد عملاً. لم يجد أبو أحمد (47 عاما) منفذاً إلى المدينة. فالجدار لم يترك فتحة فيه. كان محكم الإغلاقفي ضاحية البريد، شمال مدينة القدس، لم يكن الوضع أقل سوريالية.
أقيم الجدار في منتصف الشارع طولياً ابتداءً من حاجز قلندية الحدودي الذي يعزل رام الله عن القدس، باتجاه الجنوب، ليعزل بلدة الرام، التي يعيش فيها 65 ألف مواطن «مقدسي وضفاوي». يفصل الجدار أيضاً بلدة الرام من الشرق عن شقيقتها المجاورة بلدة بير نبالا في جهة الغرب، وعشرات الآلاف من المواطنين يقطنون في خمس أو ست قرى في الجانب الغربي من المدينة.
يمتد الجدار كيلومترات عدة من الشمال إلى الجنوب. يلتف حول ضاحية البريد باتجاه الشرق، ليبقي بعض المؤسسات الأجنبية في حدود القدس، فاصلاً بين ضاحية البريد ومستوطنة النبي يعقوب.
في هذا المكان بالضبط، وضع حاجز عسكري شهير، لكونه من أسوأ الحواجز في المدينة. الخيار أمام المواطنين المقدسيين في منطقتي الرام وضاحية البريد هو الوقوف ساعة أو ساعتين أمام الحاجز أو سلوك إحدى الطرق الالتفافية. طريق باتجاه الشرق عبر مستوطنة «بسغات زئيف»، وطريق باتجاه الغرب عبر منطقة عطاروت الصناعية.
بقية المواطنين من الضفة الغربية لا يمكنهم دخول القدس، وهم فيها، بل يسمح لهم بدخول رام الله من المعبر الحدودي في قلندية.
إنه وضع غريب. يجبر الناس على أن يتحركوا في مسارات محددة، تماماً كصاحب مزرعة للبقر يسيطر على حركة حيواناته، في المرعى والمجزرة.


في انتظار نصر الله فلسطين

في ضاحية البريد، كان الجدار الاسمنتي البشع يحجب الهواء والشمس عن بيت المقاول بسام الشروف (32عاماً)، الذي لا يبعد عنه سوى ثلاثة أمتار. يقضي الشروف ساعتين يومياً منتظراً على حاجزين عسكريين في طريق التفافية حتى يصل الى القدس. ويروي الشروف حادثة حاولت خلاله جرافات الاحتلال اقتلاع أشجار الزيتون قرب الجدار. ويسرد: «قلت لهم لا تقطعوا الشجر. زرعها والدي، وهذه هي ذكراه».
وفي سؤاله عن نهاية انتظاره حلاً ينهي حصار الجدار، لم يكن لدى شروف جواب شاف. فالعجز الفلسطيني كان واضحاً. والسلطة الفلسطينية مع حكومتها تعيش في الكوكب الأحمر. يقول إن على الفلسطينيين أن يقتدوا بحزب الله. وأن تكون لديهم قيادة مخلصة لشعبها. ليس مهماً أن تعرف ما الطريق لتدمير الجدار، ولكن الأكثر أهمية أن يكون الناس متوحدين في إرادتهم ضد الجدار، بقيادة مخلصة تخرج من بين ظهرانيهم.
كان حزب الله مثالاً واضحاً، ويتابع: «نريد قائداً مخلصاً لشعبه مثل حسن نصر الله. سيكون لنا قائد في يوم ما. وسنتمكن من تحطيم الجدار».
ولم تختلف اقتراحات إزالة الجدار عن سوريالية وجوده. تقول رئيسة مركز دراسات القدس هدى الإمام: «هناك فتحات صغيرة في أسفل الجدار يمكن تعبئتها بالمتفجرات ونسفه».
كانت الإمام ترافق وفداً أوروبياً خلال جولة على الجدار، وهو ما أثار حفيظة شاب كان جالساً ينتظر فرصة للعبور، فصبّ جام غضبه على الوفد الاوروبي، الذي جاء للتضامن مع المعزولين في قرى العيزرية وأبو ديس والسواحرة. وهدد الشاب برمي الحجارة على أعضاء الوفد الذين كانوا يستقلّون حافلة. قال «ابتعدوا عن المكان حالاً. سأضربكم بالحجارة. أنتم تتفرجون علينا كأننا في حديقة حيوانات. أنتم المسؤولون عن كل ما حصل».


فصل...لا يلغي التواصل

قريتا العيزرية وأبو ديس المتاخمتان للقدس، كانتا جزءاً منها. ورغم قيام إسرائيل بفصلهما إدارياً عن المدينة، وإلحاقهما ببيت لحم، إلا أنهما بقيتا مترابطتين سكانياً، وقتصادياً واجتماعياً في نسيج متآلف مع القدس، يضم إليهما قرية السواحرة المجاورة. أصبحت القرى الثلاث، التي تضم نحو 47 ألف مواطن أحد معازل القدس الخمسة.
تعاملت السلطة الفلسطينية مع هذه القرى، على أنها جزء من المدينة، وامتداد لها. كان الفصل الإداري الإسرائيلي التعسفي لا يتعدى الجانب النظري منذ بداية الاحتلال في العام
1967في 2002، قامت إسرائيل ببناء جدار إسمنتي في المفترق، كحدود لمدينة القدس، رغم حقيقة أن معظم الفلسطينيين القاطنين في هذه القرى الثلاث يحملون الهوية الإسرائيلية المقدسية.
اليوم، بعد إقامة الجدار، وهجر المقدسيين، أصبحت قرى العيزرية وأبو ديس والسواحرة خاوية على عروشها. معظم الشقق السكنية فارغة من سكانها. والمحلات مغلقة.