قرّرت مُنظمة «أوبك» في اجتماعها السنوي في فيينا يوم الجمعة الماضي إبقاء استراتيجيّتها القاضية بعدم خفض إنتاجها اليومي من الخام الأسود والبالغ نحو 31.5 مليون برميل. وجاء هذا القرار ليُؤكّد التوجّه الذي تبنّته «أوبك» في اجتماعها في تشرين الثاني الماضي، الذي قادت فيه السعوديّة دول المُنظّمة لتبنّي سياسة نفطيّة جديدة تقوم على الحفاظ على الحصّة السوقيّة لـ«أوبك»، وخاصّة مع تنامي إنتاج الدول غير الأعضاء، وفي مقدمتها الولايات المُتّحدة التي استفادت طفرة «النفط الصخري» فيها من الأسعار المرتفعة للنفط خلال السنوات القليلة الماضية.
القرار الأخير يعكسُ، والحال هذه، القناعة السعوديّة بنجاح الاستراتيجيّة التي صُمّمت في تشرين الثاني، وخاصّة أنّ استمرار ضخّ الخام الأسود في السوق العالمي أدّى إلى هبوط أسعار النفط إلى نصف قيمتها تقريبا منذ حزيران الماضي، وهو الهبوط الذي ساهم بفعاليّة في تباطؤ إنتاج «النفط الصخري» الأميركي، ودفع الشركات النفطيّة العالميّة إلى إلغاء مشاريع استثماريّة تبلغُ قيمتها أكثر من 130 مليار دولار.
القناعة السعوديّة الراسخة بجدوى هذه السياسة يتحدّاها التفاؤل الذي يُبديه رجال صناعة النفط في العالم تجاه المرونة التي أظهرتها صناعة «النفط الصخري» الأميركية في مواجهة انخفاض الأسعار خلال المدة الماضية، وهو ما يُؤشّر في نظرهم إلى الشوط الكبير الذي قطعته تكنولوجيات «التكسير الهيدروليكي» و«الحفر الأفقي» في زيادة إنتاجيّة عمليّة استخراج النفط من المكامن الجيولوجيّة الصعبة وتقليل تكاليفها مع الوقت (ازدادت إنتاجيّة آبار «النفط الصخري» وفق بعض الشركات بنسبة 30% في الأشهر الماضية، فيما انخفضت تكاليف الإنتاج بنسبة 15% خلال المرحلة نفسها).
هذا التفاؤل يُمكن رؤيته أيضاً في أوساط مراكز البحث المُقرّبة من دوائر صناعة القرار الأميركي، التي ترى أنّ بلاد «العم سام» يجب أن تستثمر في تكنولوجيا النفط، وأن تعمل كذلك على إرخاء القيود المفروضة على تصديره بغية تحويل الولايات المُتّحدة، في نهاية المطاف، إلى لاعبٍ أساسيّ في سوق الطاقة العالمي بعد عقودٍ من إدمانها النفط المستورد، وهو الأمر الذي سيُمكّنها برأيهم من الحفاظ على مصالحها الحيويّة وتحديدا في الشرق الأوسط، بل من دون الحاجة إلى التدخل العسكريّ المُباشر، وسيحميها، فضلا على ذلك، من الضغط السعودي، ما سيجعلها أكثر قدرة على تبنّي سياسات أكثر توازنا في المنطقة (يُجادل بعض الخبراء الأميركيّين في أنّ نجاح العقوبات النفطيّة على إيران كان مدينا على نحو ما لتخمة إنتاج النفط الصخري لأنّ انقطاع إمدادات إيران النفطيّة لم يكن ليُؤثّر جوهريا على أسعار النفط، وهو ما منح أميركا هامش مناورة أوسع في مفاوضات الملفّ النووي).
إذاً، المعركة من أجل الحصص السوقيّة في سوق النفط مُستمرة، وهي ستشهد فصلا جديدا مع نهاية الشهر الجاري إذا جرى توقيع الاتّفاق النووي النهائي بين إيران والقوى الدوليّة؛ فإيران التي كانت تُصدّر نحو 2.4 مليون برميل يوميّا في 2011 إبان فرض الحزمة المُشدّدة من العقوبات على تعاملاتها الماليّة الدوليّة، تُصدّر اليوم نحو مليون برميل يوميّا فقط، وهي عطشة للعودة إلى السوق الدولي بثقلٍ أكبر في أقرب فرصة ممكنة.
تتمتّع صناعة النفط الإيرانيّة بميزتين مُهمّتين: الأولى أنّ جيولوجيا إيران سهلة، وهو ما يجعل تكلفة استخراج النفط منها مُنخفضة للغاية أسوة بجاراتها من دول الخليج العربي. والثانية أنّ هذه الصناعة تطوّرت في العقود الأخيرة بمعزل عن التأثير الكبير للشركات الأجنبيّة، وهو ما أعطى طهران مساحة لمراكمة وتوطين الخبرات المحليّة في مجال الصناعة النفطية ومنحها المرونة للتعامل مع الظروف الاستثنائيّة المُختلفة.
وقد عملت العقوبات الغربيّة المُشدّدة على البلد النفطي على تعزيز هذا التوجّه مع اكتساب الكوادر الإيرانيّة خبراتٍ جديدة في تخزين النفط وتحسين الإنتاج من الحقول التي أوشكتْ على النضوب، لذلك تقول التقديرات إن الإيرانيّين سيكونون قادرين على إضافة مليون برميل جديد يوميّا إلى السوق في غضون مدة تراوح بين ستّة أشهر وسنة من لحظة رفع العقوبات كليا. ومّما لا شكّ فيه أن تدفّق الاستثمارات الأجنبيّة مُجدّدا على القطاع النفطي الإيراني، وحصوله على التكنولوجيّات النفطيّة التي حُرمها طويلا، سيُمكّنان الجمهورية من مضاعفة طاقتها الإنتاجيّة بحلول نهاية العقد، كما سيؤهلانها لأداء دور أكبر في سوق الطاقة العالمي (تكمن إحدى مُشكلات الصناعة النفطيّة الإيرانيّة المهمّة في أنّ الإنتاج يأتي من حقولٍ قديمة، وهو ما يُبرّر الحاجة إلى التكنولوجيات المُساعدة في زيادة نسب استرداد الخام الأسود من الحقول المُتسارعة النضوب، وبدء مشروعاتٍ استثماريّة جديدة لزيادة الإنتاج).
والواضح أن عودة المزيد من النفط الإيراني إلى السوق العالمي، معطوفة على تباطؤ مُعدّلات الطلب على البترول عالميّا، ربما تساهمان في وضع المزيد من الضغوط على الأسعار المُنخفضة أصلا. وبرغم أنّ هذه النتيجة تبدو مثاليّة للسعوديّة، التي ترغب في رؤية مُنتجي «النفط الصخري» الأميركي وهم يتعرضون للمزيد من الخسائر، فإنّها تبقى من جانب آخر محفوفة بالمخاطر، وتحديداً في المدى الطويل، بالنظر إلى التأثيرات السلبيّة للأسعار المنخفضة على الاقتصاد السعوديّ واستقراره المالي، وخاصّة أنّ المملكة لم تبدِ أيّ إشاراتٍ لتخفيض إنفاقها المُتضخّم (تحتاج السعوديّة إلى مستوى أسعار عند 100 دولار للبرميل حتّى تستطيع الاستمرار في إنفاقها على الوتيرة نفسها، وتقول التقديرات إنّ انخفاض سعر برميل الخام سيُكلّف الموازنة السعوديّة عجزاً تقترب قيمته من 100 مليار دولار هذا العام).
في المقابل، سيفتح تبنّي الرياض سياسة خفض الإنتاج بهدف رفع الأسعار، الطريق مُجدّدا لمنتجي «النفط الصخري» لضخّه بوتيرة أسرع، وهو الأمر الذي يدفع كثيرين من المُعلّقين للقول إنّ طفرة «النفط الصخري» والتحسينات الهائلة التي طرأت على تكنولوجيا استخراجه خلال السنوات الماضية، وضعت أميركا في موقع المُتحكّم في السقف السعري في سوق النفط الدولي، وحرّرتها من الاعتماد الكبير على النفط السعودي (بلغ مُعدّل الواردات الأميركية منه أقل من مليون برميل يوميّا منذ بداية العام)، وهو الأمر الذي ستكون له في نهاية المطاف نتائج حاسمة على شكل العلاقات الأميركية ــ السعوديّة، وعلى مقاربة أميركا لمصالحها في منطقة الخليج العربي عموما، كما يُؤكّد جيرمي شابيرو، أحد مستشاري هيلاري كلينتون، الذي لخّص هذه النظرة الجديدة في تصريحات أخيرة لصحيفة «الإيكونوميست»البريطانيّة بالقول، إنّ «الصفقة النوويّة ليست محاولة من أميركا للنوم مع إيران في سرير واحد، بل محاولة لترك السرير الذي يجمعها بالسعوديّة».