إسطنبول | لم يعد خافياً على زائري المدن التركية الكبرى، كما على ساكنيها بطبيعة الحال، مدى تراجع مظاهر الاستقرار، خاصة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة منتصف شهر تموز الماضي، وبعد وقوع الهجمات الإرهابية في مدينة إسطنبول بصورة خاصة.
قبل سلسلة التفجيرات التي عصفت بـ«العاصمة التاريخية» لتركيا، وقبل محاولة الانقلاب، لم يكن مألوفاً ملاحظة انتشار عناصر عسكريين في شوارع المدينة الضخمة والمثقلة بالتناقضات الاجتماعية (بين الوجه الغربي والوجه المحافظ). كان الأمر يقتصر على عناصر الشرطة التي تحرس وتدير كل شيء له علاقة بالأمن. أما اليوم، فيتضح، من خلال المشاهدات، مدى التغيّر الحاصل في سياسات الدولة الآخذة بالتشكّل على صورة «دولة أمنية، بوليسية».
عقب محاولة الانقلاب، يروي كثرٌ مشاهداتهم لاعتقالات وقعت في الشارع أمام أعينهم، وفي وضح النهار. يلفت هؤلاء «كيف أصبحتَ تلاحظ وجود القوات الأمنية في كل مكان تقريباً: في الميادين العامة، وبوابات المواصلات العامة والمترو، وفي أماكن التجمعات، حتى إنه في بعض الأماكن الحيوية تجد عناصر الجيش، وليس الشرطة، وقد انتشروا بزيّهم الكامل».
هذه صورة عن مدن البلاد التي تعيش في ظل قانون الطوارئ منذ محاولة الانقلاب، حيث بات أيّ شخص معرّضاً للمساءلة في أيّ وقت. ولا يقتصر الأمر على الأتراك، وبصورة أقل على السياح الذين تقلّ أعدادهم بشكل مطرد، إذ يصدف أن يحدثك شاب عربي يتابع دراسته في جامعة تركية أنه «حين تتحدث بلغة غير التركية، العربية تحديداً، وحين تتمثل فيك الملامح العربية، قد تشاهد نوعاً من العنصرية، أو ردود الفعل المتوجّسة، خاصة إذا كنت تحمل حقيبة مثلاً، ما قد يثير الشك والخوف في نفوس المسافرين بالمواصلات العامة».

تجاهر الدولة البوليسية
بقمعها ولا تتردّد في إطلاق حملات تطهير


«الدولة البوليسية» التي باتت تجاهر بأدوات قمعها ولم تتردد في إطلاق حملة «تطهير» واسعة في مؤسساتها وفي المجتمع ضد جماعة فتح الله غولن المتهمة بمسؤوليتها عن محاولة الانقلاب، تشنّ أيضاً حملة واسعة تحدّ من عناصر التعددية السياسية، وتقيّد الصحافة إلى درجة أصبحت معها «تركيا أكبر سجن لهذه المهنة. وخلال سنة واحدة قضى نظام أردوغان على كل تعددية إعلامية» (وفق منظمة مراسلون بلا حدود). وفي هذا الخصوص يقول الصحافي التركي المعروف أورهان إردينغ: «أعمل في هذه المهنة منذ 59 عاماً، عرفت خلالها كل شيء، لكنّ الخوف لم يكن يوماً حاضراً كما هو الآن».
رغم أنّ أسباب هذا التحوّل نحو «الدولة البوليسية» قد جاء نتيجة «توظيف رئيس وحكومة تركيا محاولة الانقلاب العسكري العنيف لتضييق الخناق على حقوق الإنسان وتفكيك الضمانات الديموقراطية الأساسية... (ما أدخل) تركيا في أسوأ أزماتها في تاريخها المعاصر»، استناداً إلى تقرير منظمة «هيومن رايتس ووتش» لعام 2017 الصادر أول من أمس، فإنّ أسباب الأزمة تقود نحو «حزب العدالة والتنمية» نفسه. فالحزب الحاكم منذ 2003، يجسّد مفارقة الديموقراطية، بوجهيها: هو من جهة يحوز شرعية انتخابية تتعزز مع مرور الوقت، لكنه من جهة أخرى يتصف بنزعة سلطوية قوية تزداد بفعل هذه الشرعية الانتخابية نفسها التي تسمح له باستغلال الإرادة الانتخابية. وكما يقول أستاذ العلوم الاجتماعية جيهان توغال، فإنّ الأخطر يتمثّل في أنّ أردوغان صاحب الشخصية الكاريزمية أمام جمهوره، يجيد تكريس «النمط السلطوي المشخصن».
ومن انعكاسات «الشخصنة»، مواصلة الرئيس التركي الذي عرف كيف يكرّس نفسه كزعيم أول في البلاد، معركته لتبنّي النظام الرئاسي، إذ إنّ الأمر لا يتعلق بتطوير النظام السياسي للجمهورية بقدر ما أنّ هدفه نقل السلطة من الحكومة ورئيسها، إلى «قصر أردوغان». لكن هذا الأمر ينطوي على مخاطر تمثّل «تهديداً وجودياً» على الجمهورية القائمة، في المدى البعيد، خاصة أنّ مجتمع الجمهورية التركية يُصّور على أنه أشبه بالموزاييك (رغم كل السياسات التي اتبعها القوميون الأتراك). ومن شأن تحويل النظام إلى رئاسي في عهد أردوغان، أن يقود إلى «إلغاء التوازنات (المجتمعية والسياسية) القائمة راهناً بجرّة قلم»، وفق الباحث المصري مصطفى اللباد.

تزداد سلطوية «العدالة
والتنمية» فيما يشخصن
أردوغان الحكم

وفي هذا الصدد، فإنّ من بين المخاوف التي يشير إليها كثر من الصحافيين والباحثين الأتراك خلال الحديث إليهم، ربط أردوغان مصير الدولة «بسياساته المشخصنة»، إن على المستوى الإقليمي حيث بات «مضطراً إلى الذهاب نحو النهاية، رغم كل التعقيدات والمخاطر» كما يرى أستاذ العلوم السياسية بيرم بلشي، أو على المستوى الداخلي حيث هو مهدد بتبعات دعمه للجماعات المتشددة في سوريا والعراق، ومهدّد أيضاً بنتائج الصراع الذي أطلقه في جنوب شرق البلاد «في مواجهة حزب العمال الكردستاني الإرهابي»، وفق السلطات. ولعلّ هذه الحرب المفتوحة داخل الدولة ضد المكوّن الكردي (والتي لا تحظى بتغطية إعلامية وافية)، قد لا تعيد تركيا إلى عقد التسعينيات فحسب، بل إلى ما هو أخطر، خاصة في ظل الاشتعال الإقليمي، وفي ظل المتغيرات الديموغرافية التي تشهدها تركيا، إذ بات الأكراد يتوزعون على مختلف المدن، بعكس ما كانت عليه الصورة قبل عقود حين كان وجودهم يتركّز في جنوب شرق البلاد.
حيال الخوف من نتائج «السياسات المشخصنة» والقلق المتنامي على «ما تبقّى من الديموقراطية» (كما يصف الروائي أورهان باموك في نقاش أخير)، في ظل عودة «الدولة البوليسية»، فإنّ مصير تركيا التي طبعها أردوغان بشخصه في وقت لا يلقى فيه معارضة متماسكة حتى في حزبه، يبدو مفتوحاً على تهديدات جدية، قد لا تسمح له بالانتقال إلى «حلم الجمهورية الثانية».




الحزب الحاكم «تحت السيطرة»

تكثر الأحاديث عن تنامي الخلافات داخل «حزب العدالة والتنمية»، لكن معظم المؤشرات تفيد بأنّ أردوغان ينجح في تثبيت سطوته داخل الحزب، خاصة عقب إزاحة أحمد داوود أوغلو، وتحجيم نفوذ عبدالله غول (الصورة). ورغم أنّ هناك تباينات داخل «العدالة والتنمية» في ما يخصّ ملفات إقليمية (تحديداً العلاقة مع مصر، كما يشرح مصدر من داخل الحزب)، فإنّها «لا تتجاوز هذا الحد». ولم تستطع بعد الكتلة التي تنتقد «سلطوية أردوغان وفريقه» تشكيل جسم سياسي واضح المعالم. ويُعتبر نائب رئيس الوزراء السابق، بولنت أرينتش، من بين أبرز وجوهها. وتنعكس الانتقادات إزاء سلطوية أردوغان والفريق المحيط به، مثل صهره بيرات البيرق، على فئة وازنة من الداعمين لحزبه، كما يشير متابعون، إذ يضيف هؤلاء أنّ الأوضاع الاقتصادية قد تؤدي إلى صعود «الأصوات الرافضة» بين فئات الداعمين الذين «يفقدون امتيازات كان قد أمّنها المناخ الاقتصادي المريح في السابق».
إزاء هذا التململ المحتمل، جدير بالذكر أنه من خصائص الخطاب الأردوغاني، إرجاع ما يحصل في البلاد إلى «المؤامرات». وهو نسب قبل يومين التراجع الكبير في سعر الليرة إلى تدخلات في الأسواق من قبل عناصر وصفهم بـ«الارهابيين» بهدف إضعاف الاقتصاد.





انزلاق نحو النموذج الباكستاني؟

يتصاعد الحديث عن إمكانية انزلاق تركيا ــ بفعل دعمها لـ"الجهاد المتطرّف" في سوريا ــ نحو الخطر الذي سبقتها إليه باكستان. وخلال الأسابيع الأخيرة، تداول العديد من الصحف التركية والغربية عبارة "تركيا الباكستانية"، في تحليلاتها لخلفيات وتداعيات الهجوم الأخير على الملهى الليلي في اسطنبول، والذي أودى بحياة 39 شخصاً.
ورداً على تساؤلات كثيرة طُرحت، في هذا المجال، أشار البعض إلى أن تركيا تلعب حالياً دوراً مماثلاً للدور الباكستاني إبان حرب الاتحاد السوفياتي في أفغانستان. وفيما لفت هؤلاء إلى التحذيرات التي تلقتها أنقرة، خوفاً من انزلاقها نحو المجهول، فقد أشاروا إلى أنها اختارت الشعور بالنشوة بناءً على انتصارات صغيرة، الأمر الذي لم تغذِّ فقط الأحلام بإعادة التوسع الجغرافي، بل أيضاً جنون العظمة لدى الرئيس رجب طيب إردوغان.
من جهة أخرى، ذكر مراقبون آخرون أمراً مثيراً للاهتمام، وهو أن "مثل هذا التطور لن يبقى ضمن الحدود التركية؛ بل على العكس من ذلك، سيصبح هذا البلد أرضاً خصبة لتكاثر التطرّف، كما باكستان، وبالتالي سيهدّد الدول المجاورة".
(الأخبار)