تماماً كما في كلّ خطاب أو قرار يصدره، جاءت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخيرة، خلال لقائه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، لتثير بلبلة وموجة انتقادات وتساؤلات. وسائل الإعلام الأميركية المنشغلة بمتابعة مشاكل إدارته الداخلية، رصدت في المؤتمر الصحافي الذي عقده المسؤولان، عبارة أساسية: "لا مانع في حلّ الدولتين أو دولة واحدة".
هذه الصيغة الجديدة التي وقف عندها في العالم، سياسيون أو وسائل إعلامية كلّ حسب رؤيته، قاربتها الصحف الأميركية بواقع مشترك، وهو "انسحاب خطير من سياسة الشرق الأوسط، التي تبعها الجمهوريون والديموقراطيون، على مدى عقدين"، على حدّ تعبير افتتاحية "واشنطن بوست"، و"التخلّي عن سياسة يرتكز عليها دور أميركا في صنع السلام في الشرق الأوسط، منذ إدارة (بيل) كلينتون"، وفق بيتر بياكر ومارك لاندر في "نيويورك تايمز". وبين هذين التوصيفين، حقيقة مثيرة للسخرية تناولها آدام شاندلر في "ذي أتلانتك"، وصاغها كالتالي: "حلّ الدولتين الذي عايش الكثير من المشاكل، لم ينجُ أمام أربعة أسئلة طُرحت على ترامب في مؤتمر صحافي، بعد عقود من الدبلوماسية الأميركية والمناورات والتملّق".
في المضمون، اختلفت التفاصيل من دون أن تخرج عن السياق؛ فقد رأت "واشنطن بوست" أن ترامب "بانسحابه من حلّ الدولتين، أبقى على احتمالات ضئيلة لأي اتفاق" قريب أو بعيد، كما "زاد من احتمالات عودة بعض الأماكن، التي تعيش سلاماً نسبياً في المنطقة، إلى حالة نزاع ما". وفي ما هو أبعد من ذلك، لم يلقِ ترامب خطاب التحوّل السياسي الخارجي فقط، لكنه "ناقض موقف الرئيس باراك أوباما، وأيضاً الرئيسين جورج بوش الابن وبيل كلينتون". ووفق الصحيفة، فإن "غالبية الإسرائيليين الذين يفضّلون حلّ الدولة الواحدة يتخيّلون نظام فصل عنصري (ابارتيد)، حيث يمكن للفلسطينيين أن يعيشوا في مناطق حكم ذاتي، ولكن من دون سيادة، ومن دون الحقوق الديموقراطية التي يتمتع بها اليهود".
عند هذه النقطة، بدا التعبير الذي اعتمده بيتر بياكر ومارك لاندر في "نيويورك تايمز"، أكثر وضوحاً، وهو يتمثّل في كلمة "خدعة". وتكمن الحيلة في أن "أحداً لم يقدّم بديلاً معقولاً، أو قد يكون مقبولاً من الطرفين، الأمر الذي يترك النزاع في حالة معلّقة". وزاد الكاتبان على ذلك، أن "ترامب لم يعالج الديناميات التي تحرّك النزاع، بل أعرب عن ثقته بأنه يمكنه أن يحدث خرقاً فقط".
ومن خارج الصحيفتين الأساسيتين على الساحة الأميركية، تبرز مقاربة مختلفة تناولها فريد كابلان في موقع "سلايت"، وتمحورت حول واقع أن لقاء نتنياهو مع ترامب كشف أن هذا الأخير "لا يملك أي فهم لسياسات الشرق الأوسط، أو لما تتطلّبه معاهدة سلام مع الفلسطينيين". ووفق كابلان، يعتقد الرئيس الأميركي أنه "بمجرّد رغبته بالتوصل إلى اتفاق، فإن ذلك يضعه في منتصف الطريق لإنجازه"، بل إن "صداقته المقرّبة من نتنياهو تحرّكه بهذا الاتجاه".
فضلاً عمّا تقدّم، لم تغفل هذه الوسائل الإعلامية التطرّق إلى الإستراتيجية بمنظورها الواسع، التي سعى ترامب إلى الترويج لها، وهي "المبادرة الإقليمية" التي يعمل عليها مع صهره جارد كوشنير، والتي تتضمن اصطفاف الدول العربية ذات العداء المشترك لإيران، مع إسرائيل، بهدف التوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين. وبالعودة إلى "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز"، فقد رأتا أن هذه الإستراتيجية محكومة بالفشل، فيما أشارت "واشنطن بوست" إلى أن هذا الاقتراح لا يعدو كونه "مراوغة أكثر منه خطة سلام".
أما كابلان، فقد تناول المبادرة، بالإضاءة على واقع أن ترامب "لا يفهم أن نتنياهو لا يحتاج إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين في هذا الوقت". بل تخطّى هذه النظرية إلى أخرى مماثلة لها تسري على "الفلسطينيين، والدول السنية ــ السعودية، مصر، الأردن، والإمارات ــ التي يريد ضمّها".
ارتكز كابلان على نقطة واحدة للخروج بهذه المعادلة، وهي بكل بساطة ناتجة عن أن إسرائيل "تمكنت فعلاً من تدعيم أمنها، خلال العام الماضي، بإنشاء تحالف مع القادة العرب السنة، الذين يتشاركون معها الكره لإيران والميليشيات الداعمة لها". وبالتالي، هي ستكتفي حالياً بـ"تقوية دعائم هذا التحالف، من خلال الاتفاق على مشاركة المعلومات الاستخبارية معهم، بشأن أعدائهم المشتركين"، وذلك بالإشارة إلى ما كانت قد ذكرته "وول ستريت جورنال"، أول من أمس. ولهذا السبب، فوفق تعبير كابلان، إنّ "آخر شيء يريده أي منهم هو البدء بالتحدث إلى الفلسطينيين". إذاً بلغة أدق، سيحصل الإسرائيليون وهؤلاء القادة العرب على ما يريدون، بينما "يحافظون على الدعم الخطابي للفلسطينيين، خشية خروج تظاهرات في بلادهم ضد أي اتفاق علني مع إسرائيل".
وفي المحصلة، "لم يكن لدى الرجلين ما يناقشانه في الوقت الحالي"، قال كابلان. ولكن ذلك لا ينفي أن نتنياهو حصل على ما ذهب لأجله إلى واشنطن، "أي سماع الرئيس الأميركي الجديد يقول أحبك، أحبك، أحبك؛ وأكره إيران، أكره إيران، أكره إيران". "ترامب فعل كل ذلك"، عقّب كابلان، ونتنياهو "ابتهج". أما الخلاصة، فهي: "يكذب ترامب على نفسه إذا ما رأى في الأمر نذير سلام"، فيما "يعرف نتنياهو ــ الذي نادراً ما يكذب على نفسه ــ أنه ليس كذلك... وهو يبتهج أكثر".
(الأخبار)