بينما غطّت الأزمة السورية على مؤتمر ميونيخ للأمن العام الماضي، يبدو أن أزمة الغرب المتصاعدة هي التي ستأخذ حيزا كبيرا من النقاش هذا العام، وهو ما يذكّر بتاريخ هذا المؤتمر الذي نشأ عام 1963 أساسا لمناقشة أمن المعسكر الغربي في أيام الحرب الباردة، جامعاً في سنواته الأولى «العائلة الغربية» من أوروبا والولايات المتحدة و«حلف شمال الأطلسي» لمناقشة التهديدات الأمنية التي تطاولها.
يقوم مؤتمر هذا العام، والذي يبدأ أعماله اليوم وينتهي في التاسع عشر من الشهر الجاري، على المخاطر التي تهدد «الغرب الليبرالي» كما عُرِّف منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وتتوجه الأنظار إلى نائب الرئيس الأميركي، مايك بنس، الذي سيترأس بعثة بلاده في المؤتمر، فيما يشارك معه وزير الدفاع جايمس ماتيس، وذلك في محاولة للبحث عن «مفاتيح» سياسة إدارة دونالد ترامب في السياسة الخارجية والأمنية.
وكان ماتيس قد شارك أول من أمس في مؤتمر «حلف شمال الأطلسي» في بروكسل، حيث بدد حضوره فيه القليل من الغموض الذي أحاط بموقف ترامب من الحلف، مع تأكيد الوزير «قوة الروابط بين ضفتي الأطلسي».
رغم إيجابية موقف ماتيس بالنسبة للغربيين، فإن خطاب بنس في المؤتمر سيكون أكثر أهمية، وكذلك لقاءاته الثنائية مع القادة الأوروبيين، التي ستؤكد التزام الولايات المتحدة بشأن أمن ضفتي الأطلسي. في هذا الإطار، ذكرت مصادر حكومية ألمانية أن المستشارة أنجيلا ميركل، ستلتقي بنس، وهو أول لقاء على هذا المستوى بين ميركل والإدارة الأميركية الجديدة التي سبق وانتقد رئيسها (ترامب) سياسة المستشارة اتجاه المهاجرين.
وليس غريبا أن يترقب المشاركون في مؤتمر ميونيخ موقف الإدارة الأميركية، خصوصا أن تقرير المؤتمر لهذا العام، الصادر منذ أيام، رأى أن أحد أبرز مصادر القلق اليوم هي انتخاب ترامب رئيسا للولايات المتحدة، مع ما أثاره من تساؤلات حول موقفه من قضايا عدة، أبرزها «حلف شمال الأطلسي»، إضافة إلى صعود «تهديد الشعبوية» في المجتمعات الغربية والحالة الداخلية التي تعيشها أوروبا. ووفق التقرير، فإن العالم الذي تبلور بعد نهاية الحرب العالمية الثانية أمام «مخاطر» تهدد نهايته، يواجه حالة غير مسبوقة من «عدم الاستقرار» منذ عقود.
وعزز ترامب تلك الشكوك في خطاب تنصيبه عندما تحدث عن «أولوية المصالح الأميركية» في علاقتها مع الدول الأخرى، قائلا إن «أميركا تأتي أولا». ويشير التقرير إلى أن ترامب في خطاب تنصيبه لم يذكر أبدا «قيم الديموقراطية وحقوق الإنسان والحرية»، ما شكل قطيعة مع الرؤساء السابقين، وهو ما «لا يبشر بالخير للقيم الليبرالية حول العالم».
وفي الفيديو الترويجي للتقرير الصادر قبل أيام، أوضح رئيس المؤتمر ولفغانغ إيشنغر، خلفيات اختيار عنوان «ما بعد الحقيقة، ما بعد الغرب، ما بعد النظام» للتقرير. وقال إن عبارة «ما بعد الحقيقة» ترجع إلى «أننا اليوم نتعامل مع مستوى جديد من الأخبار الملفقة والحرب الهجينة مع استخدام الحرب الرقمية لنشر أخبار غير صحيحة لا تتعدى كونها بروباغندا... إنما أكثر تأثيرا» مع استخدام مواقع التواصل الاجتماعي التي تصل «إلى الملايين في ثوان»، وهذا «تحد جديد للسلام العالمي والاستقرار».
وعن «حقبة ما بعد الغرب»، رأى إيشنغر أن العالم يدخل في حقبة من «التوجهات المعادية لليبرالية»، مع ارتفاع «احتمال تشكل حكومات سلطوية تستبدل الحكومات الغربية التقليدية القائمة على القيم الديموقراطية»، وهو «مصدر قلق»، خصوصا مع غياب الدولة القائدة كلاسيكياً للغرب وهي الولايات المتحدة. تلك التساؤلات تؤدي إلى السؤال الأخير وهو «حقبة ما بعد النظام»، في إشارة إلى أن العالم على مشارف الدخول في نظام عالمي جديد غير الذي عرفه بعد نهاية الحرب الباردة.
في هذا السياق، قال مدير «مركز أبحاث السلام في ستوكهولم»، دان سميث، وهو أحد أبرز المتحدثين بالمؤتمر هذا العام، تعليقا على التقرير، إن «ولفغانغ إيشنغر يقوم باعتراف جريء جدا»، وهو بالإضافة إلى ذلك «يقارن بين مرحلتين: مرحلة الحرب العالمية الثانية واليوم»، طارحا علامة استفهام عن واقع انتقال العالم إلى مرحلة نظام عالمي جديد، وهو سؤال في رأيه «أساسي».
سميث رأى أيضا أن انتخاب ترامب أثار «أسئلة عدة أساسية عن النظام العالمي كما اعتدناه»، وخصوصا مواقف الرئيس الأميركي «المختلفة تجاه حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي بالمقارنة مع الإدارات السابقة، وموقفه المختلف من روسيا، واعتباره الصين المشكلة رقم واحد التي تواجه الولايات المتحدة». وأضاف الباحث أن كل تلك المواقف والاعتبارات ستخلق نمطا جديدا «غير واضح الآن»، لذا إن الواقع الحالي «أننا نعيش في حالة من عدم اليقين».

ليس غريبا أن يترقب المشاركون في المؤتمر موقف الإدارة الأميركية الجديدة

الاختلاف الأوضح بالنسبة إلى سميث هو التطورات في الأزمة السورية منذ عام حتى اليوم، إذ إن هناك تغيرا في «الاصطفاف الاستراتيجي في الشرق الأوسط... لروسيا دور أكبر مما كانت تحظى به سابقا، وكذلك إيران لها دور ثابت جدا».
وكان التقرير أشار أيضاً إلى هذا الواقع المتغير في سوريا وفي الشرق الأوسط، وهو واقع «تجهد» الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي نفسيهما إلى إعادة تحديد دوريهما فيه. من هنا، فإن «الحقائق الجديدة في سوريا اليوم واضحة جدا» في الميدان، مع سيطرة «النظام على المدن الأربع الأساسية في سوريا بدعم من روسيا وإيران»، في وقت يحاول فيه الغرب الدخول على الخط لتحديد دوره مع تراجع إمكانية التوصل إلى حلول عبر الدبلوماسية. ويستنتج من ذلك أن حقبة «ما بعد الغرب» في الشرق الأوسط قد تكون قد بدأت.
طروحات التقرير وتساؤلاته، التي من المفترض أن تناقش خلال المؤتمر، ستفتح الطريق «أمام تساؤلات أكثر»، وفق سميث، الذي رأى أنه لا أجوبة حاسمة «عن النظام العالمي الجديد، إذا ما كنا فعلا نتجه نحو نظام جديد» ستخرج الآن.
وحالة «عدم اليقين» التي تخيم على مؤتمر ميونيخ ليست جديدة، فقبل عام، قال وزير الخارجية الأميركي السابق، جون كيري، في خطابه في المؤتمر، إن المجتمع الدولي لم يواجه في السابق هذا العدد من الأزمات المتزامنة، مضيفا: «نحن نواجه أكبر أزمة إنسانية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية»، في إشارة إلى أزمة المهاجرين.
واستعاد كيري آنذاك سنة 1963، وهي العام الأول للمؤتمر، حين كانت «الحرب الباردة ساخنة جدا»، لكن «العالم» تخطى الأزمة، مشيراً إلى «تفاؤل» الرئيس الأميركي آنذاك، جون كينيدي، الذي دعا برلين إلى النظر بعيدا عن الأخطار الحالية إلى «آمال الغد».
وقبل عشر سنوات، أثار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الجدل في خطابه الشهير في مؤتمر ميونيخ لعام 2007، حينما انتقد النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة، الذي اعتبره «غير عادل» ويفرض عدة مخاطر على العالم.
وقال بوتين في ذلك اليوم إن استخدام القوة غير شرعي خارج إطار الأمم المتحدة، و«لسنا بحاجة لاستبدال الأمم المتحدة بحلف الأطلسي أو بالاتحاد الأوروبي». وأضاف أنّ «توسع الأطلسي لا علاقة له بتحديث الحلف، بل هو خرق خطير يقلص مستوى الثقة المتبادلة».