باريس | خلال المناظرة التلفزيونية التي جمعته أول من أمس بزعيم «حزب الحرية» اليميني المتطرف غيرت فيلدرز، استعمل رئيس الحكومة الهولندية مارك روته مصطلحاً رياضياً للتدليل على البعد الأوروبي للانتخابات التشريعية الهولندية، التي تجري اليوم، قائلاً إنّها «تشكل الدور ربع النهائي الكفيل بقطع الطريق أمام الحركات الشعبوية في المنافسة الأوروبية»!
بالفعل، لم يسبق لاستحقاق انتخابي هولندي أن استقطب اهتماماً أوروبياً ودولياً مثل الذي تحظى به المعركة الانتخابية الحامية التي تدور رحاها حالياً بين «حزب المحافظين الليبراليين» (VDD)، التي يتزعمه روته، و«الحزب من أجل الحرية» (PVV) اليميني المتطرف، الذي يقوده غيرت فيلدرز. فقد رصدت استطلاعات الرأي، منذ أشهر، صعوداً مقلقاً في شعبية الخطاب العنصري الذي يجاهر به فيلدرز، حيث يرتقب أن ينال ما بين 15 و20 في المئة من أصوات الناخبين، ما يخوّله الفوز بنحو 19 إلى 23 مقعداً نيابياً (من مجموع 150)، فيما تراجعت شعبية روته الى مستويات مقاربة، حيث يرتقب أن ينال ما بين 23 و27 مقعداً.
هناك معطى آخر زاد من حجم المخاوف؛ فقبل 48 ساعة من موعد الاقتراع، كان قرابة 60% من الناخبين لا يزالون مترددين ولم يحسموا بعد خياراتهم بشكل نهائي. بالتالي، أثير الكثير من التساؤلات حول احتمال أن تسفر هذه الانتخابات عن مفاجآت غير متوقعة، على غرار ما حدث في استفتاء «بريكست» ثم في انتخابات الرئاسة الأميركية. مفاجآت ستصبّ حتماً في مصلحة حزب فيلدرز المتطرف، بما من شأنه أن يجعل منه القوة السياسية الأولى في البلاد.
فوز غيرت فيلدرز، إذا تحقق، سيشكّل صدمة سياسية قوية عشية ثلاثة استحقاقات انتخابية مهمة ستشهدها دول الاتحاد الأوروبي تباعاً: انتخابات الرئاسة الفرنسية في شهر أيار المقبل، والانتخابات التشريعية الألمانية في أيلول/ سبتمبر، ثم الانتخابات العامة المسبقة في إيطاليا، التي تقررت إقامتها في توقيت لم يتحدد بعد (في أجل أقصاه فبراير/ شباط 2018)، إثر استقالة رئيس الوزراء ماثيو رانزي، بسبب فشله في الاستفتاء الدستوري الذي أجري في شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي. وكل هذه الاستحقاقات تشهد بروزاً مقلقاً لليمين المتطرف وللحركات الشعبوية (راجع الكادر أدناه).
لكن حزب فيلدرز، حتى لو حلّ في المنزلة الأولى من حيث عدد الأصوات والمقاعد النيابية، لن يستطيع تولّي الحكم. فنظام النسبية الكاملة المعتمد في الانتخابات الهولندية يمنح مقعداً نيابياً لكل من ينال 0,7 في المئة من الأصوات. وبالتالي، لا بدّ من ائتلاف حكومي يضم عدة أحزاب، لأن نظام الاقتراع هذا لا يخوّل أيّاً من القوى السياسية الـ28 المشاركة الحصول بمفردها على الأغلبية المطلوبة لتشكيل الحكومة، والمقدّرة بـ76 مقعداً من مجموع 150. وحتى لو حلّ حزب فيلدرز المتطرف في المنزلة الأولى، فإن كافة التشكيلات السياسية الممثلة في البرلمان أعلنت سلفاً أنها ترفض التحالف معه.
من جهته، يجب على رئيس الحكومة الحالي مارك روته إيجاد شركاء سياسيين جدد لحزبه، لأن حلفاءه الاشتراكيين المنتمين إلى حزب «الديموقراطيين الاجتماعيين» يتجهون نحو هزيمة برلمانية مدوّية، حيث تشير التوقعات إلى أنهم لن ينالوا أكثر من 5 مقاعد نيابية. ويقابل ذلك بروز ثلاثة أحزاب من اليسار والوسط، في مقدمتها «الحزب اليساري البيئي» الذي يتزعمه جيسي كلافر، والذي ترشحه الاستطلاعات ليحل ثالثاً بنحو 20 مقعداً، بينما يرتقب أن ينال «المسيحيون الديموقراطيون» و«الوسطيون الإصلاحيون» ما يقارب 10 مقاعد لكل واحد منهما.
 لكن غيرت فيلدرز يراهن على اكتساح حزبه في انتخابات اليوم للعب دور المعارض الأول في البلاد، وتقوية موقعه ضمن تحالف الأحزاب اليمينية المتطرفة في البرلمان الأوروبي، والذي تتزعمه حالياً الفرنسية مارين لوبن، ما سينعكس بخطاب أكثر تطرفاً وعنصرية. فبالرغم من نقاط التشابه العديدة بين فالدرز ولوبن، وخاصة في ما يتعلق بتخلي حزبيهما عن الفكر المحافظ الذي تتبناه عادة الحركات اليمينية المتطرفة (الدفاع عن الدين والقيم العائلية التقليدية)، لحساب «خطاب عصري» أكثر تقبّلاً لحقوق النساء والمثليين، إلا أنّ فيلدرز يتبنّى أفكاراً عنصرية لا تجرؤ لوبن على المجاهرة بها، كالدعوة الى إغلاق المساجد، وحظر تداول القرآن، ومنع المهاجرين ذوي الأصول المسلمة من الاستقرار في بلاده. 

فوز فيلدرز، لو تحقق، سيشكّل صدمة عشية ثلاثة استحقاقات انتخابية في أوروبا

وكان فيلدرز قد اتخذ من الإسلاموفوبيا حصاناً رابحاً لسحب البساط من اليمين المتطرف التقليدي في هولندا، بعد اغتيال زعيمه بيم فورتوين، عام 2002. كان فيلدرز آنذاك لا يزال نائباً برلمانياً من اليمين التقليدي، مسجّلاً على لوائح «المحافظين الليبراليين»، حزب غريمه الحالي مارك روته. لكن شططه اللفظي واستفزازاته العنصرية أدت الى فصله من الحزب.
تزامن ذلك مع اغتيال المخرج الهولندي ثيو فان غوغ، عام 2004، من قبل متطرف إسلامي هولندي من أصل مغربي، مقرّب من تنظيم «القاعدة»، رأى في أحد أفلامه المنتصرة لحقوق النساء تطاولاً على القرآن. اغتنم غيرت فيلدرز مشاعر الإسلاموفوبيا التي أسهمت تلك الجريمة في تنميتها، فأصدر فيلماً استفزازياً أخرجه بنفسه، تحت عنوان «فتنة»، وقارن فيه بين القرآن وكتاب «كفاحي» لهتلر، داعياً إلى حظر القرآن في الدول الغربية بوصفه «كتاباً يحرّض على العنف والقتل».
انطلاقاً من الشعبية التي اكتسبها في الأوساط اليمينية المتطرفة بفضل تلك الطروحات المغالية، قام فيلدرز بتأسيس «الحزب من أجل الحرية» عام 2006. وتم انتخابه مجدداً في البرلمان الهولندي على قوائم هذا الحزب، عام 2008. ومنذ تلك الفترة، أصبحت معاداة الإسلام الحجر الأساس في برنامجه الانتخابي.
برنامج سخر منه رئيس الحكومة مارك روته، في مناظرته مع فيلدرز، أول من أمس، قائلاً إنه «برنامج يمكن اختزاله في صفحة واحدة». لكنها صفحة تتضمن من الشطط العنصري والوعود الشعبوية، ما يهدّد بزلزال سياسي من شأنه أن يقوّض النظام الديموقراطي في هولندا التي كانت تعدّ البلد الاوروبي الأكثر تسامحاً وسلمية، حتى في أحلك الفترات التي مرت بها القارة العجوز، أثناء النصف الأول من القرن العشرين.




ثلاثة استحقاقات أوروبية على المحك

الامتحان الهولندي في مواجهة اليمين المتطرف، خلال الانتخابات التشريعية الهولندية التي تجري اليوم، ويرتقب أن تُعلن نتائجها الأوّلية فجر الخميس، ستليه ثلاثة استحقاقات بارزة في دول الاتحاد الأوروبي، من المرتقب أن تشهد صعوداً مقلقاً للحركات الشعبوية المتطرفة.
فالانتخابات الرئاسية الفرنسية التي ستجري على دورتين، يومي 23 نيسان و7 أيار المقبلين، تواجه تحدياً غير مسبوق، إذ تقف زعيمة «الجبهة الوطنية» المتطرفة، مارين لوبن، على أعتاب الحكم، متصدّرة في استطلاعات الرأي بـ26 في المئة.
أما الانتخابات التشريعية الألمانية، التي تتطلع من خلالها المستشارة أنجيلا ميركل إلى الفوز بولاية رابعة، فإن التنافس فيها سيجري أساساً بين حزب ميركل «المسيحيون الديموقراطيون» (CDU)، و«الحزب الاجتماعي الديموقراطي (SPD)، بزعامة منافسها الاشتراكي مارتن شولتز. لكن الاستطلاعات تتوقع صعوداً غير مسبوق لليمين المتطرف، ممثلاً في حزب «البديل من أجل ألمانيا» وحركة Pegida المعادية للمسلمين، إذ يُرتقب أن يستحوذا على أكثر من 20 في المئة من الأصوات.
وفي إيطاليا التي تقرر أن تُجرى فيها انتخابات عامة مسبقة، قبل شهر فبراير 2018، فإن أحزاب اليمين المتطرف التقليدي، ذات النزعة الفاشية، كـ«رابطة الشمال» و«الحلف الوطني»، تشهد انحساراً كبيراً. لكن البلاد تواجه تحدياً شعبوياً جديداً يتمثل في «حركة خمس نجوم»، التي أسّسها الفكاهي بيبي غريلو، عام 2009. وكان هذا الفكاهي المثير للجدل، الشبيه بدونالد ترامب في شخصيته ونهجه السياسي الشعبوي، قد أحرز 25 في المئة من الأصوات في الانتخابات العامة، سنة 2013، ثم لعب دوراً أساسياً في إطاحة حكومة ماثيو رانزي أثناء الاستفتاء الدستوري، في ديسمبر الماضي. وهو يتصدر الاستطلاعات حالياً بنحو 35 في المئة من الأصوات.