القضية الحقيقية في الاستفتاء التركي، بكل صخبه وانقساماته، ليست أيّ نظام أفضل من الآخر، الرئاسي أو البرلماني، بقدر ما هي أن التعديلات صممت على مقاس رجل واحد يلخص الدولة في شخصه ويدمج كل مؤسساتها وفق مشيئته، من دون أي اعتبار لأي قواعد ديموقراطية في الفصل بين السلطات، أو أي عناية بضمانات الحريات العامة والتعددية السياسية.
بلا مواربة، كان ذلك هو موضوع الاستفتاء الذي توجد حيثيات حقيقية تنزع عنه نزاهته مثل تعديل القواعد والإجراءات أثناء «الشوط الثاني من المباراة» حيث احتسبت بطاقات اقتراع غير مختومة.
النزاهة مسألة شرعية. وهذه غائبة بفداحة.
الاستقواء بالسلطة لا يؤسس لشرعية، فضلاً عن أن فرض النتائج يناقض طبيعة المجتمع التركي المتنوع سياسياً وجهوياً وعرقياً.
القفز فوق الحقائق نهايته مؤلمة ــ كما جرت العادة دائماً، وتركيا المتنوعة لا يمكن حكمها بالقبضات وحدها.
من الحقائق أن تركيا المأزومة في حربها مع «داعش» بضرباته الإرهابية التي تتكرر من وقت لآخر، لا يمكن أن تواجهه بثقة وهي منقسمة على نفسها بفداحة.

التجربة المصرية في استفتاء ٢٠١٢ حاضرة لمن يريد أن
يقرأ ما قد يحدث في تركيا

كما أن تركيا المأزومة في وجودها كدولة موحدة على خلفية التوترات المتصاعدة مع الأقلية الكردية التي تمثّل نسبة معتبرة من السكان، لا تقدر على بناء توافقات وطنية ضرورية تمنع بالوسائل السياسية قبل العسكرية نزع بعض أراضيها عند رسم الخرائط بعد انتهاء الحرب على «داعش».
مشروع الدولة الكردية في شمال سوريا خطر غير متوهم، وانضمامها إلى كردستان العراق احتمال قائم، وانشقاق أكراد تركيا يستحيل استبعاده.
في مواجهة مثل تلك الأخطار الوجودية، فإن سياسات أردوغان تبدو عبئاً ثقيلاً على المستقبل التركي.
باسم «تركيا القوية»، التي يحكمها رجل واحد، فإن ذلك المستقبل قد يفلت عن الحافة التي يقف عندها. ما هو داخلي في تركيا يهم الإقليم كله، فهذا البلد جوهري ومهم في معادلاته.
القضية ــ بعد ذلك ــ لا يصح أن تخضع لازدواجية المعايير. الذين يدافعون عن أردوغان بالنكاية في نظم الحكم ببلدانهم لا يحق لهم أي حديث عن أي انتهاكات مماثلة بحقهم. والذين يهاجمونه باسم نظم ترتكب الانتهاكات نفسها يفتقرون إلى أي أساس أخلاقي ينتسب إلى القيم الحديثة. القيم الإنسانية لا تتجزأ.
هذه حقيقة لا يصح تجاوزها قبل أي اقتراب من الملف التركي المؤثر بالإقليم كله.
في حديث الحقائق، فإن الاستفتاء بموضوعه وظروفه وتوقيته يغلق صفحة في التاريخ التركي منذ تأسيس دولته الحديثة عام ١٩٢٣ على يد مصطفى كمال أتاتورك، من دون أن يكون ممكناً أو متاحاً فتح صفحة جديدة تحظى بتوافق وطني واسع على طبيعة إدارة الدولة وقواعدها.
تقويض «الأتاتوركية» لا يعني انتصار «الأردوغانية». هذه حقيقة أخرى ماثلة على المسرح السياسي التركي المنقسم بضراوة والمرشح لاضطرابات قد تطول وتأخذ أشكالاً متعددة. الدساتير بطبيعتها موضوعات توافق لا نزاع، كما أنها لا تحسم بالغلبة في صناديق الاقتراع.
التجربة المصرية في استفتاء ٢٠١٢ حاضرة لمن يريد أن يقرأ ما قد يحدث في تركيا، ولو بسيناريوات مختلفة. بالغلبة في صناديق الاقتراع مررت جماعة «الإخوان المسلمين» مشروع الدستور، الذي انفردت بصياغته بعدما استبعدت ممثلي القوى المدنية في أعمال الجمعية التأسيسية.
رغم أن مخالفاتها الانتخابية أقل مما هو منسوب للرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونسب التصويت لمصلحتها أعلى، فإنها أسست بالانقسام الحاد لخروجها الكامل من السلطة.
بدا لافتاً أن الجماعة، رغم فوزها بنتائج الاستفتاء، خسرت القاهرة ومدناً كبرى أخرى، وكان ذلك مؤشراً على ما حدث تالياً، فالتغيير يبدأ من العواصم والمدن الكبرى حيث تتركز الطبقة الوسطى والفئات الأكثر تعليماً وتقدماً بمعايير التنمية البشرية.
المؤشرات نفسها تكررت في الاستفتاء التركي، حيث خسرت تعديلات أردوغان العاصمة أنقرة وأهم مدينة تركية كاسطنبول، ومدناً أخرى موثرة مثل أزمير، ولذلك تداعياته وحساباته في قراءة المستقبل.
بأي قياس، فإن الاستفتاء لا يؤسس لاستقرار ما تحت القمع والترهيب وحكم الطوارئ والعودة إلى عقوبة الإعدام، التي كانت حكومة أردوغان قد ألغتها من ضمن إجراءات أخرى تتطلبها شروط الالتحاق بعضوية الاتحاد الأوروبي، وقد اتسعت الفجوات معه إلى ما يشبه «الطلاق السياسي».
ذلك يضر بتركيا المأزومة قبل غيرها ويخفض من مستويات مناعتها أمام الأخطار المحدقة. ورغم تشكيك دول أوروبية رئيسية في نتائج الاستفتاء وطلبها من الرئيس التركي بناء توافقات وطنية ترمم الوضع المأزوم في بلاده المنقسمة، فإن المصالح الاستراتيجية سوف تحكم العلاقات تحت خط لا تتعداه.
وقد كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب واضحاً في خياراته، فقد هنأ أردوغان بنتائج الاستفتاء من دون عناية بأي معايير دولية لنزاهته ولا التفاتاً لقضايا الحريات وحقوق الإنسان، لكن الميديا ومراكز الأبحاث في بلاده سوف يكون لها رأى آخر.
ما بين المصالح والقيم، سوف تتأرجح العلاقات التركية الأوروبية على الحافة.
الانتهاكات تحرج بقسوة والمصالح تمنع الصدامات المفتوحة إلا إذا مضى أردوغان إلى نهاية الشوط بالتصعيد ضد الاتحاد الأوروبي هروباً من أي انهيارات متزايدة في شعبيته.
بعد رحلة من التراجع والارتباك والتورط في الأزمة السورية ودعم مؤكد للتنظيمات التكفيرية مثل «النصرة» و«داعش»، خسر أردوغان رهانه الكبير على أن يكون القرن الحادي والعشرون قرناً تركياً في الشرق الأوسط.
عند سقوط بغداد عام ٢٠٠٣ تقدم إلى مسارح الإقليم، مع لاعبين آخرين، لملء الفراغ في المشرق العربي. مما أعلى طموحه، قوة النموذج الذي تبناه في المزج ما بين الحداثة والديموقراطية والتعددية والإرث الحضاري الإسلامي ــ دولة علمانية لا تخاصم جذورها كما قال في القاهرة عندما زارها عام ٢٠١١. كذلك أمران إضافيان على درجة عالية من الأهمية:
الأول، توافق واسع يتجاوز الانتماءات الحزبية على ذلك المشروع، وقد كان بوسع أي مطّلع على الأحوال التركية قبل الربيع العربي أن يصل إلى هذا الاستنتاج بشيء من اليسر.
والثاني، الاطمئنان إلى المستقبل فقد تجاوز الاقتصاد التركي أزماته وبدأ يحتل مراكز متقدمة ــ السابع أوروبياً والسابع عشر عالمياً.
الآن، لم يعد هناك توافق وطني على أي مشروع ولا أي ثقة في المستقبل.
تلك هي الخسارة التركية الحقيقية من انقلابات رجل فقد اتزانه واستبد به هوسه حتى بدت بلاده كأنها شخصه ومستقبلها مرهون به، لكنها ليست آخر الخسائر، فوجودها نفسه مهدد، بينما الانقسامات مرشحة للتصاعد وأن تتجاوز كل حد وأي حافة.