باريس | كل الظروف كانت مهيّأة لجعل مشروع قانون تطبيق المبادئ الأخلاقية في الحياة السياسية الإنجاز الأبرز لحكومة ماكرون الأولى. قانون أُريد له أن يكون تجسيداً لسياسة القطيعة التي يراهن عليها الرئيس الفرنسي الجديد لكسب الأغلبية في الانتخابات التشريعية التي ستجري دورتها الأولى في نهاية الأسبوع المقبل.
الرئيس الفرنسي الشاب تعهد بإطلاق هذا القانون خلال الأسبوع الأول من توليه الحكم، ليجسّد رمزياً أولى السمات المميّزة لولايته الرئاسية. ولمنح القانون مصداقية أكثر، تم إسناد منصب وزارة العدل الى زعيم «التيار الديموقراطي» (يمين الوسط)، فرنسوا بايرو، المعروف باستقامته ومحاربته الشرسة للفساد السياسي. مواقف وصلت به إلى حدّ دعوة أنصاره إلى التصويت لمصلحة المرشح الاشتراكي فرنسوا هولاند، عام 2012، ضد ساركوزي، الذي قال بايرو عن ولايته الرئاسية: «إنّها الأكثر فساداً في تاريخ الجمهورية الخامسة».
لكن خطة نزيل الإليزيه «الأخلاقية»، في أعقاب حملة رئاسية طغت عليها فضائح الفساد، لم تلبث أن اصطدمت بمشاكل وعقبات شتى، ما دفع رئيس الحكومة، إدوار فيليب، الى إرجاء إطلاق القانون حتى منتصف الشهر الجاري، بحجة «التعقيدات القانونية التي تتطلب مزيداً من الوقت لاستكمال تحرير مشروع القانون». فيليب رأى أن هذا التأجيل لا يخلّ بوعود ماكرون الانتخابية، لأن الأهم هو «إطلاق مشروع القانون هذا قبل الانتخابات التشريعية» (في دورتها الثانية).

عادت رياح الفضائح
لتهب في غير ما يشتهي
ربّان سفينة «إلى الأمام»


لكن رياح الفضائح عادت لتهب في غير ما يشتهي ربّان سفينة «إلى الأمام»، إذ تعرّض «مشروع تطبيق المبادئ الأخلاقية في الحياة السياسية»، الذي يرفع الرئيس الجديد لواءه، لهزّة قاسية تمثلت في فضيحة مالية مزدوجة طالت إحداها ذراعه اليمنى، ريشار فيرون، الذي يشغل منصب الأمين العام لحركة «إلى الأمام»، والذي تم تعيينه وزيراً لـ«التماسك الإقليمي» (التسمية الماكرونية الجديدة لوزارة الجماعات المحلية)، بينما استهدفت الفضيحة الثانية ماريان دي سارنيز، الذراع اليمنى لفرنسوا بايرو، والتي تشغل منصب وزيرة الشؤون الأوروبية.
المُحرج في أمر هذه الفضائح، التي طالت الوزيرين الجديدين، أنها مشابهة تماماً لفضائح مرشح «الجمهوريين» فرنسوا فيون، التي انطلق منها ماكرون لإطلاق مشروعه لـ«أخلقة الحياة السياسية»، أي اتهامهما بتشغيل أفراد من عائلتيهما كمساعدين في البرلمان الفرنسي بالنسبة إلى فيرون، وفِي البرلمان الأوروبي بالنسبة إلى سارنيز.
وقد كان لافتاً أن ريشار فيرون، الذي كان في طليعة المنتقدين لإصرار فرنسوا فيون على عدم التنحّي رغم الفضائح التي طاولته، لجأ الى الاستراتيجية ذاتها التي اعتمدها فيون؛ ففي مواجهة الحملة الإعلامية المطالبة باستقالته، ردّ وزير «التماسك» بأنه لن يتنحّى إلا إذا تم توجيه الاتهام له رسمياً من قبل القضاء. وأيّده في ذلك الرئيس ماكرون الذي رأى أنه «ليس من صلاحيات الصحافة أن تحلّ محلّ جهاز القضاء».
كان بإمكان الأمور أن تبقى على هذه الحال، كما كان يطمح المعسكر الرئاسي، وذلك إلى ما بعد الانتخابات التشريعية. لكن «لعنة فيون» أصرّت على ملاحقة ماكرون وذراعه اليمنى. فقد وجّهت صحيفة «لوموند» ضربة قاصمة الى استراتيجية التريّث الماكرونية، من خلال نشر معلومات جديدة تبيّن أن الشبهات التي تحوم حول الوزير فيرون لا تقتصر على توظيف أفراد عائلته كمساعدين برلمانيين، بل تتعدى ذلك إلى ما هو أخطر من وجهة النظر القضائية، إذ إنه تورّط حين كان نائباً عن «الحزب الاشتراكي» في اقتراح مشاريع قوانين تصبّ في مصلحة شركات التأمين الصحي، وكان في الوقت نفسه يتقاضى رواتب كـ«مكلف بمهمة» من قبل بعض تلك الشركات.
تسريبات «لوموند» دفعت القضاء الى الإعلان، على نحو مفاجئ، أول من أمس، عن فتح تحقيق قضائي تمهيدي بخصوص التهم الموجهة الى الوزير فيرون. تحقيق سيفضي حتماً الى استدعائه للاستجواب القضائي، الأمر الذي يتنافى مع أهليّته للبقاء في منصبه الوزاري، بقطع النظر عمّا إذا كان الاستجواب القضائي سيؤدي الى توجيه الاتهام له رسمياً أو إخلاء سبيله لاحقاً.
هذه التطورات أربكت الماكينة الانتخابية الرئاسية. فقد كان ماكرون مُطالباً بتفعيل القاعدة السياسية والأخلاقية المعمول بها في فرنسا، منذ ربع قرن، والتي تقضي بتنحية أي وزير يكون محل مساءلة قانونية أو تعليق مهماته مؤقتاً ليعود لاحقاً إذا تمت تبرئته، كما حدث مثلاً مع دومينيك شتروس كان، حين كان وزيراً في حكومة ليونيل جوسبان، في نهاية التسعينيات. لكن التخلي عن الرجل الثاني في حركة «إلى الأمام»، قبل أسبوع واحد من موعد الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية، من شأنه أن يتسبّب في انعكاسات فادحة قد تعصف بالأغلبية البرلمانية التي يطمح إليها المعسكر الرئاسي. لذا لجأ ماكرون وذراعه اليمنى، تماماً كما فعل فرنسوا فيون، الى استراتيجية «الهرب إلى الأمام».
اكتفى ماكرون بتجديد ثقته بريشار فيرون رمزياً، وذلك من خلال تناول الغداء معه، بعد ساعتين من إعلان فتح التحقيق القضائي ضده، في مقاطعة بروتاني، التي يخوض فيها فيرون معترك الانتخابات التشريعية، بينما تُركت مهمة التفسير والتبرير الى مستشاري الإليزيه، الذين تحجّجوا بأن «فتح تحقيق تمهيدي لا يشكّل اتهاماً قضائياً رسمياً»، وأن الوزير فيرون «يبقى، كأي مواطن، بريئاً إلى أن تثبت إدانته نهائياً من قبل القضاء».
تلك التبريرات لم تكن كافية، خاصة أن وسائل الإعلام تلذّذت بإعادة تسليط الضوء على التصريحات المتشددة التي أدلى بها ريشار فيرون، حين تفجّرت فضائح فرنسوا فيون، ما دفع الإليزيه الى خطوة إضافية على درب «الهرب إلى الأمام» تمثلت في اتخاذ قرار تكتيكي بإعادة تسريع سنّ قانون «تطبيق المبادئ الأخلاقية في الحياة السياسية»، بهدف التخفيف من الانتقادات الموجّهة للفريق الحكومي.
بعد أقل من ست ساعات عن إعلان فتح التحقيق التمهيدي ضد الوزير ريشار فيرون، عقد وزير العدل فرنسوا بايرو مؤتمراً صحافياً كشف خلاله عن مشروع القانون «الأخلاقي». وكان لافتاً أن التسمية الرسمية للقانون تم تخفيفها إلى «قانون إعادة الثقة في الحياة الديموقراطية»!
على مدى ساعة ونصف، تحدث فرنسوا بايرو بإسهاب عن المناقب الكثيرة لقانونه، لكنه عجز عن الإجابة عن السؤال الوحيد الذي كان على كل الألسنة: كيف يمكن لحكومة تطال فضائح الفساد أحد وزرائها الرئيسيين أن تزعم أنها مؤهّلة لتطبيق قانون كهذا؟