لندن | لم يثر قرار الحكومة البريطانيّة بإرسال فرق من الشرطة للاطلاع والتدرّب على أحدث تقنيات مكافحة الإرهاب في إسرائيل اهتماماً كبيراً في الشارع البريطاني المشغول بنقاشات «البريكست» وفضائح السلامة العامة في المباني المتعددة الطبقات ومسائل تحصيل العيش اليومي.
ولعل جزءاً من غياب الاهتمام العام بهذا القرار يمكن تفسيره بحوادث العنف الإرهابيّة التي تعرضت لها مدن أوروبيّة وبريطانيّة، ولا سيما تفجير مانشستر والهجوم على جسر برج لندن، ودفعت الديموقراطيات الغربيّة إلى رفع سويّة التنسيق الأمني مع إسرائيل بالذات والتي يعتبرها العاملون في هذا المجال بمثابة «جامعة هارفارد لمكافحة الإرهاب». فبرغم أن الشرطة البريطانيّة نجحت مثلاً في إنهاء هجوم جسر لندن وتصفية الإرهابيين الثلاثة المتورطين فيه خلال ثماني دقائق فقط، فإن مثل هذه الفترة تعد في القدس المحتلة وقتاً طويلاً للغاية لا يمكن قبوله وفق المقاييس الإسرائيليّة.

«بالاديا» هي مدينة وهميّة أنشأتها
القوات الأميركيّة
لتنفيذ مناورات


وليست المسألة تتعلق فقط بنوعيّة تسليح قوات الشرطة فحسب ــ إذ إن الشرطة البريطانيّة لا تحمل أسلحة ناريّة وتكتفي بالهراوات، بينما تدعمها وحدات قوات تدخل سريع تمتلك صلاحيات إطلاق النار عند الحاجة فقط – بل إن الإسرائيليين طوروا ما يعدّ أكفأ المنظومات الشاملة على الإطلاق للتعامل مع مسائل السيطرة على الحيزات المدينيّة، وهي مثلاً تسيطر على القدس الشرقيّة المحتلة من خلال وحدات تدخل حاسم متنقلة دائمة الوجود، سواء بالعربات أو على الدراجات النارية، ونظام مراقبة معقد بالكاميرات والأقمار الاصطناعيّة والبطاقات البيوميتريّة الممغنطة، إضافة إلى العزل الجغرافي للمناطق من خلال الأسلاك الشائكة والجدران للتحكم بالتدفقات البشريّة وإعادة تخطيط الشوارع لأجل تلك الغاية. هذا بالطبع إلى جانب العمل الاستخباري العميق، ولا سيما التنسيق الأمني اللحظي مع أجهزة الأمن في السلطة الفلسطينيّة، واختراق التكتلات البشريّة على مدار الساعة من خلال قوات «المستعربين» ذات الصلاحيّات المطلقة لتنفيذ الاعتقالات وإطلاق النار من دون الرجوع لأحد. وما يكمل الحلقة طبعاً أن جل المدنيين الإسرائيليين يخدمون في جيش الدّفاع ويتربون على مكافحة الإرهاب ويصرح لهم بحمل الأسلحة بعد تركهم الخدمة. كما رفعت إسرائيل من خلال تقنيات التكنولوجيا المتقدمة مستوى الأمن الوقائي إلى مرحلة الفن الرّفيع من خلال ما يعرف بالـ(WIT) أو نظام المراقبة الذكيّة الذي يربط بين عدة منظومات رقابة لكاميرات الشوارع، والطائرات بلا طيار، والهليكوبترات ولوغاريتمات متابعة وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت وبطاقات الائتمان والهواتف النقالة والكمبيوترات ويوجه الأجهزة الأمنية المعنيّة للتدخل في وقت حاسم. بل تعمل شركات التقنيات الإسرائيليّة بالتعاون مع نظيرتها الأميركيّة تحديداً على تجربة الاستجابة للتهديدات المحتملة من قبل روبوتات ذكيّة ودرونات تحلق على نحو دائم، بانتظار توجيهات النظام الإلكتروني بالقتل، بدلاً من انتظار استجابة العنصر البشري الأقل كفاءة نظريّاً والأكثر تعرضاً للأخطار المكلفة ــ أقله ماليّاً.
الذي لا يعرفه الرأي العام البريطاني حقيقة أن هذا التقدم الاستثنائي للإسرائيليين في هذا المجال إنما يتم على حساب الفلسطينيين في الأراضي المحتلة الذين تحولت عقولهم وأجسادهم وممتلكاتهم وأراضيهم وتجمعاتهم الحضريّة إلى أكبر مختبر في التاريخ البشري كلّه لتطوير تقنيات العزل والسيطرة والتحكم وحرب المدن وقمع الحراكات الشعبيّة من خلال معدات وتقنيات تخضع الأفراد وتشل حراكاتهم. هذه التجارب مكّنت إسرائيل من امتلاك قاعدة تقنيات متقدمة شاملة وكوادر عالية التدريب كانت وراء النهضة الاستثنائية للعلوم والتكنولوجيا الحديثة في الكيان ــ أو ما سمّته ناعومي كلاين «الكارثة المستدامة لدولة التمييز العنصري». ومن دون شك، قدّمت إسرائيل للمنظومة الأمنيّة الأميركيّة خصوصاً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وصعود موجة الإمبراطورية الأميركيّة المعولمة أفضل حقول التجارب لاختبار فعاليّة كل تلك التقنيات على الأرض، والتي طبقها الأميركيون بحرفيتها عند احتلالهم العراق. وقد كان القرار الإسرائيلي (غير المفهوم وقتها) للانسحاب الأحادي من غزة نتيجة قرار واع للقيادة الإسرائيليّة بتوسيع نطاق تجارب التحكم بالتكتلات البشريّة من خلال الحصار الذكي والسيطرة عن بعد وترك السلطات المحليّة في أيدي مافيات تنسّق بشكل تام مع أجهزة الاستخبارات الإسرائيليّة. وليس سراً أن التعاون الإسرائيلي ــ الأميركي أصبح حجر الزاوية في إعداد القوات الأميركيّة لحروب المدن وهي أنشأت بالتعاون مع الإسرائيليين مدينة فلسطينيّة وهميّة في قلب النقب أطلق عليها اسم «بالاديا» لتنفيذ مناورات السيطرة المتوازية براً وجواً ومن خلال التقنيات المتقدمة. وللحقيقة، فإن المواطنين الحريصين على الديموقراطيّة في الغرب ينبغي أن يقلقهم انخراط دولهم في مثل هذه التجارب، ولا سيّما أن الإسرائيليين ينقلون خلاصة معرفتهم بالقمع والقتل الاستباقي ليس للقوات العسكريّة الموجه إلى الخارج بل وأساساً لقوات الشرطة المحليّة ــ كما هي الحال في ولايات أميركيّة عدة صارت معروفة الآن بقسوة زائدة في تعامل قوات شرطتها مع السكان المحليين ــ وهي القوات التي تعاني أصلاً من العنصريّة ورهاب المهاجرين والفقراء ــ وذلك بعد تلقيها تدريبات الإسرائيليين، إضافة إلى أنظمة قمعية عديدة، منها أنظمة شرق أوسطيّة عدة تستورد تلك التقنيات إما مباشرة أو من خلال واجهات أميركيّة أو أردنيّة.
إذا لم تنتبه الطبقة العاملة البريطانيّة وقطاعاتها المهمشة بالذات من السود والمهاجرين والأقاليم المنضوية تحت حكم المملكة المتحدة إلى خطورة هذا التعاون البريطاني – الإسرائيلي في المجال الأمني البوليسي تحديداً، وسمحوا لحكومة المحافظين الانعزاليين بالاستمرار في إنفاق الأموال العامة لمصلحة إثراء صناعة تقنيات الاحتلال الإسرائيليّة على حساب الفلسطينيين، فسينتهون في وقت قريب وشرطتهم المسالمة قد تحولت إلى جيش قذر، وأحياؤهم كما معازل فلسطينيّة خاضعة لأسوأ أشكال الهيمنة في تاريخ البشر.