في خضم الصراع الخطير الذي تشهده فنزويلا، يتزايد، يوماً بعد يوم، الحديث عن خيارات المؤسسة العسكرية، وتكثر الرهانات السياسية حولها، بين معسكر الرئيس نيكولاس مادورو، الذي يبدو مطمئناً إلى الانحياز «الطبيعي» للجيش الفنزويلي إلى «الثورة البوليفارية»، وبين المعسكر المعارض، المدعوم من قبل الولايات المتحدة، والذي يتحيّن فرصاً، تبدو ضئيلة، لإحداث اختراق داخل الثكنات التي ما زالت حتى الآن حصناً أميناً للنظام اليساري.
انطلاقاً من ذلك، كان طبيعياً أن يحظى التمرّد العسكري المحدود في «قاعدة باراماكاي»، يوم الأحد الماضي، باهتمام جدّي، من قبل طرفي الصراع. فالرئيس الفنزويلي، تعامل مع الموقف باعتباره عملاً «إرهابياً» ضد الجيش الفنزويلي ــ وهي العبارة التي استخدمها وزير الدفاع فلاديمير بادرينو ــ وتوعّد بإنزال أقصى العقوبات بحق المتمردين، في حين أن المعارضة اليمينية نظرت إلى ما جرى، باعتباره تطوّراً، قد يصبّ في نهاية المطاف في مصلحتها، ومؤشراً على «تململ» في الأوساط العسكرية من النظام الحاكم.
في الواقع، لم يكن ما جرى في القاعدة «التمرّد العسكري» الأول، ففي السابع والعشرين من حزيران الماضي، فوجئ الفنزويليون بمروحية تابعة لهيئة التحقيقات العلمية والجنائية في الشرطة الفنزويلية، وهي تحلّق فوق كاراكاس، رافعة شعارات تدعو إلى العصيان، قبل أن تهاجم مبنى المحكمة العليا.

ملابسات الحركة العسكرية في «قاعدة باراماكاي»، تثير بدورها الكثير من التساؤلات والشكوك، فالعسكريون الذين قاموا بها، بدوا أشبه بمجموعة هواة، أكثر منهم متمرّدين جديّين. هذا الأمر، يعكسه اعتماد العسكريين «كتيّب معايير» عفا عليه الزمن، ويتمثل في السيطرة على منشأة عسكرية، لجعلها قاعدة انطلاق لتمرّد واسع النطاق. ولكن التحرّك العسكري الأخير، بدا محكوماً بالفشل، منذ البداية، بسبب افتقاره أصلاً إلى المقوّمات البديهية التي تجعله يشكل مصدر تهديد جدي للنظام اليساري.
وكان واضحاً منذ البداية أن قائد المتمرّدين، الذي ظهر في شريط فيديو، محاطاً بخمسة عشر عسكرياً، ليس بالشخصية العسكرية المؤثرة، التي تستطيع أن تقود تحرّكاً عسكرياً يمتلك فرص النجاح. فالنقيب، هو من الضباط «المحروقين» تماماً، وسبق أن تزعّم «تمرّداً» دعائياً، قبل سنتين، حين ظهر في شريط فيديو ندّد خلاله بسياسات مادورو، قبل أن يفرّ إلى الولايات المتحدة، إثر صدور مذكرة توقيف بحقه. كذلك فإن رتبته العسكرية المتدنية لا تمنحه الحيثية الجدّية داخل المؤسسة العسكرية، ولا الكاريزما بين رفاق السلاح، لجعله الشخصية القيادية في حركة تمرّد قادرة على التمدد والانتصار.
علاوة على ذلك، إنّ البيان الذي تلاه النقيب خوان كاغواريبانو، بدا مرتبكاً، سواء في هدفه، إذ لم يتجاوز إعلان «تمرّد شرعي» ــ غير انقلابي ــ بغرض «إنقاذ فنزويلا» من «ديكتاتور مجرم»، أو في إطاره الحركي، بتضمنّه انتقاداً غريباً للنخب المعارضة، التي يُفترض أن توفّر الحاضنة السياسية، وتهديداً أكثر غرابة للوحدات التي سترفض الالتحاق به، باعتبارها «هدفاً عسكرياً»!
على هذا الأساس، ثمة قلّة تعاملت مع أحداث القاعدة بوصفها تمرّداً جدّياً، فالتقويم الأولي لما جرى، يراوح بين اعتباره مجرّد تحرّك دعائي في إطار الحرب النفسية ضد الرئيس نيكولاس مادورو، لن تتجاوز آثاره واقعة الطوافة، أو خطوة يائسة من جانب عسكريين يائسين، أو ربما عملية سرقة لأسلحة، في بلد بات واقفاً عند حافة الحرب الأهلية.
ولكن، بصرف النظر عن التقويمات السابقة، فإنّ «تمرّدَي» القاعدة وطوافة وزارة الداخلة، مضافةً إليهما التقارير الإعلامية التي تتحدث عن استياء العسكريين من تداعيات الأزمة السياسية، ربما فتحا شهية المعارضة اليمينية، للعزف على هذا الوتر الحساس، والرهان بالتالي على انقلاب عسكري، يحقق الهدف الأساسي الذي تسعى إلى تحقيقه، وهو إطاحة مادورو...

العلاقة التاريخية بين الجيش والسلطة اتسمت بطابع
خاص في عهد تشافيز
وبإرث هوغو تشافيز.
ولكن هذا السيناريو، ليس بالبساطة التي قد يظنّها البعض، فطبيعة العلاقة بين الجيش والسلطة السياسية في فنزويلا، منذ انتهاء الحقبة العسكرية في أواخر الخمسينيات من القرن المنصرم، باتت تتسم بطابع خاص تجعل الرهان على الانقلابات أقرب إلى الوهم السياسي، ويجعل الخيارات العسكرية في هذا الإطار محصورة بحالة تمرّد تحت السيطرة.
لعلّ ما يؤكد ذلك أن هوغو تشافيز نفسه، فشل في الوصول إلى الحكم، خلال الانقلاب العسكري في عام 1992، قبل أن ينجح في ذلك بعد ست سنوات، من طريق الانتخابات، وهو ما تكرّر في عام 2002، حين فشل انقلاب عسكري، مدعوم أميركياً، في إزاحته عن الحكم.
ومع أن بعضاً من تلك السمات المحددة لطبيعة العلاقة بين العسكر والسياسة، يعود إلى الحقبة السابقة لتشافيز، إلا أن الأخير عزّز ما سبق، وكرّس نمطاً جديداً بات يعرف بـ«التحالف المدني ــ العسكري» الذي يشكل ركيزة أساسية في حماية «الثورة البولفيارية»، تحت تأثير عوامل عدّة، ترجّح، بشكل عام، ولاءه للنظام السياسي.
ومن الناحية الأيديولوجية، إنّ تعاليم سيمون بوليفار، محرّر أميركا اللاتينية الذي تحمل «الثورة البوليفارية» اسمه، لطالما شكلت خلفية أساسية للعقيدة العسكرية للجيش الفنزويلي، حتى قبل الحقبة التشافيزية، ومن المؤكد أنها اكتسبت بعداً جديداً، بعدما باتت جزءاً من الخلفية الفكرية للنظام اليساري، منذ نهاية التسعينيات.
يضاف إلى ذلك، أن الجيش الفنزويلي لم يكن، في العموم، من عيّنة تلك الجيوش اللاتينية، التي تأثرت خلال الحرب الباردة، بالعقيدة العسكرية المناوئة للشيوعية، والمناهضة للتنظيمات العسكرية المتأثرة بالثورة الكوبية، والتي جعلتها شديدة الحساسية تجاه حكم اليسار.
ومن ناحية أخرى، إنّ ما يميّز الجيش الفنزويلي عن غيره من جيوش أميركا اللاتينية، أن معظم ضباطه، ولا سيما القياديون، لم يتلقوا أي تدريبات في المدارس الحربية الأميركية، بالنظر إلى توتر العلاقات بين هوغو تشافيز والإدارات الأميركية، وهو أمر شديد الأهمية، في قارة، لطالما شكلت الحديقة الخلفية للولايات المتحدة التي تكاد تكون مسؤولة ــ لا بل منخرطة مباشرة ــ في كل الانقلابات العسكرية هناك.
ومن الناحية الاجتماعية، إنّ التركيبة الحالية للجيش الفنزويلي، تجعل انحيازاتها إلى اليسار أقرب منها إلى اليمين، فالكثير من حركات التمرّد، في الفترة التي سبقت «الثورة البوليفارية»، أتت من قبل ضباط ينتمون إلى الطبقات الأكثر فقراً في المجتمع الفنزويلي، ولا يخفون سخطهم على النخبة الاقتصادية الحاكمة في البلاد. ومن المؤكد أن تلك التركيبة تعززت أكثر، خلال السنوات العشرين الماضية، ولا سيما بعدما رُفد الجيش الفنزويلي بآلاف الضباط والجنود «التشافيستا».
وليس تفصيلاً هنا، ما تضمّنه البيان الذي تلاه النقيب خوان كاغواريبانو، قائد المجموعة المتمردة على مادورو، من هجوم على «النخب الفاسدة التي خانت الشعب»، و«الصفقات المعقودة بين الخونة والطغاة».
وإلى جانب ما سبق، فإن الناحية الاقتصادية تشكل عنصراً جوهرياً لضمان الولاء السياسي للكثير من الجنرالات وكبار الضباط، للحكومة اليسارية، وتلك نتاج لـ«التحالف المدني ــ السياسي» الذي كرّسه هوغو تشافيز، وسار عليه نيكولاس مادورو، الذي جعل المؤسسة العسكرية ركناً أساسياً في الحياة الاقتصادية، وشريكاً في المشاريع الاجتماعية، ذات الطابع الاشتراكي.
وتشير التقديرات إلى أن ما بين 1500 و2000 ضابط، متقاعدين أو في الخدمة الفعلية، يحتلون اليوم مواقع مهمة في الإدارة العامة، لا بل إن ثلث وزراء الحكومة الحالية، هم من العسكريين (12 وزيراً من أصل 32)، يتقدّمهم وزير الدفاع، الذي جعله مادورو «وزيراً فوق العادة»، ما يوجب على الوزراء الآخرين إطلاعه على خططهم.
وإلى جانب الوزارات المهمة، التي يشغلها العسكريون (الدفاع، شؤون الرئاسة، الداخلية، العدل، التموين، الزراعة، الصيد، الإسكان، الكهرباء، الأشغال العامة)، فإن حضورهم يطغى على مجالس إدارات كافة المؤسسات والشركات الحكومية، ولا سيما في قطاعات الطاقة والصناعة والإعلام والمصارف.
على هذا النحو، يبدو طبيعياً عدم ظهور أي بوادر خلاف على سطح العلاقات بين القادة العسكريين والرئيس نيكولاس مادورو، لا بل إن معظم محللي مراكز الدراسات العالمية يتفقون على أن الرهان على انقلاب عسكري يبقى احتمالاً ضئيلاً، ما لم تتطور الأزمة السياسية على نحو يشعر فيه كبار الضباط بأن ثمة خطراً يتهدد مصالحهم.
ولكن الاحتمالات الضئيلة للانقلاب العسكري، تقابلها احتمالات ضئيلة أيضاً للوصول إلى تسوية سياسية، في ظل الاستقطاب السياسي الحاد، ودخول الولايات المتحدة طرفاً محرّضاً، لا بل فاعلاً، في الصراع الدائر. وفي ظل هذا الواقع، من غير المستبعد أن تلجأ المعارضة اليمينية، أو بعض من أطرافها، إلى تشكيل خلايا سرية، ذات طابع عسكري، ما يزيد الضغوط، بطبيعة الحال، على الجيش الفنزويلي، وربما استقطب بعض ضباطه، للانخراط في الجهود المضادة للحكم اليساري، خصوصاً أن بوادر هذا الشكل من العنف، قد تبدّت يوم انتخابات الجمعية التأسيسية، الذي شهد هجوماً نادراً في شكله، حين انفجرت عبوة قرب مركز للتصويت، ما أدى إلى إصابة سبعة شرطيين.
وما يزيد القلق، في هذا الإطار، أن إحدى الروايات المرتبطة بأحداث «قاعدة باراماكاي»، تحدثت عن احتمال أن يكون المتمردون قد استهدفوا سرقة مخازن السلاح، وذلك في ذروة التصعيد، الذي ينذر باحتمال تطوّر الأزمة السياسية إلى حرب أهلية... في تلك الحالة، قد يعبّر بعض العسكريين عن خياراتهم السياسية على الطريقة السورية: «أعلن انشقاقي.. وهذه هويتي»!