«العقوبات الأميركية ضد فنزويلا خطوة غير بنّاءة». هذا الموقف الروسي من التصعيد الذي تنتهجه إدارة دونالد ترامب، تجاه الحكومة الاشتراكية في فنزويلا، يبدو طبيعياً، فثمة عوامل كثيرة تجعل موسكو شديدة الحساسية تجاه أي خطوة عدائية ضد كاراكاس، خصوصاً أن أسس العلاقات بين الحليفين لا تقتصر على وجود «العدو المشترك»، بل تتعدى ذلك، لترتبط بمصالح اقتصادية مباشرة، وبمنطقة ساخنة جديدة، يمكن لروسيا أن تتخذها جبهة في صراعها العالمي مع الولايات المتحدة.
لذلك، لم يكن مفاجئاً أن ركّز الكرملن على توثيق العلاقات الروسية ــ الفنزويلية، منذ عام 2006، على نحو غير مسبوق، حين أبرم الرئيس فلاديمير بوتين والزعيم الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز اتفاقات ضخمة، تضمنت توريد مقاتلات «سوخوي» وطوافات ودبابات، بعدما قررت الولايات المتحدة وقف توريد قطع الغيار لمقاتلات «أف ــ 16» الفنزويلية، في خضم التوتر الحاد بين الجارين اللدودين.
ولا شك في أن الرجلين اللذين تسلم كل منهما الحكم في بلاده، بفارق زمني ضئيل، ونجح كلاهما في إحداث تغييرات دراماتيكية، إن على مستوى الحكم في الداخل أو على صعيد العلاقات الخارجية، قد جمعتهما رغبة طبيعية في التعاون الوثيق، الذي يقارب التحالف، في مواجهة «العدو» الأميركي المشترك.
بدا الأمر تكراراً لتجارب سابقة، جعلت تقاطع المصالح ضد الولايات المتحدة محرّكاً أساسياً في العلاقات التحالفية بين الاتحاد السوفياتي وبلدان العالم الثالث في حقبة الحرب الباردة، ولكن بفارق جوهري، وهو أن روسيا الاتحادية استخلصت العبر من أخطاء الحقبة السابقة، حين ضخّ الاتحاد السوفياتي مليارات الدولارات في اقتصاديات الدول الحليفة، على شكل ديون طويلة الأجل، ولكنه أخفق في استردادها ــ لأسباب متعددة ــ حتى في الفترة التي كان خلالها في أمسّ الحاجة إلى انعاش اقتصاده المترنح بفعل إصلاحات «البريسترويكا» في نهاية الثمانينيات... وبقية القصة معروفة!
وانطلاقاً من تجارب الحقبة السوفياتية، كان لا بد من أن تدير الحكومة الروسية التعاون الاقتصادي ــ بما في ذلك الديون ــ على نحو مغاير. وعلى هذا الأساس، فإنّ القروض التي منحتها روسيا للدولة الفنزويلية، باتت متمحورة حول ضمانة أساسية هي النفط، الذي يعتمد عليه الاقتصاد الفنزويلي بنسبة 90 في المئة.
على هذا الأساس، ما إن دخلت الشركات الروسية ــ ولا سيما «روسنفت» و«لوك أويل» ــ قطاع النفط والغاز في فنزويلا من باب واسع، حتى باتت تستحوذ على حصص مرتفعة جداً، وشريكاً أساسياً في المشاريع البترولية في الدولة الكاريبية، التي ما زالت تشكل مصدراً حيوياً للطاقة المستوردة من قبل الولايات المتحدة، وذلك على نحو لم تستطع، حتى الشركات الصينية أن تجاريه، بالرغم من أن الأخيرة ألقت، ولا تزال، بثقلها في العديد من المشاريع النفطية في أفريقيا وأميركا اللاتينية، خلال السنوات الماضية.
والواقع أن هذا الدخول الاستراتيجي للشركات النفطية الروسية في العلاقات الجديدة بين موسكو وكاراكاس، بدأ منذ الاتفاق الأضخم بين فلاديمير بوتين وهوغو تشافيز، وتم بموجبه فتح خط اعتماد (ديون) بقيمة أربعة مليارات دولار لتمويل صفقات التسليح المبرمة، على أن يتم السداد على شكل شحنات نفطية.
وتشير الأرقام المتداولة إلى أن حجم الاستدانة الفنزويلية من روسيا شهد تراجعاً خلال السنوات اللاحقة، لمصلحة الصين التي سجلت ديونها مستوى قياسياً في عام 2011 (19 مليار دولار)، وهو العام نفسه الذي أمدّت فيه روسيا حليفها الفنزويلي بخط اعتماد جديد لتمويل شراء الأسلحة (2.8 مليار دولار).

وفي حين شهدت السنوات الأربع التالية مستويات متفاوتة في حجم الاستدانة الفنزويلية من روسيا والصين، فإنّ عام 2016 كان مفصلياً، إذ باتت الأولى الدائن الأساسي. هذا التحوّل يمكن تفسيره على مستويين؛ الأول، هو تراجع مكانة الشركات الصينية في الاقتصاد الفنزويلي، لأسباب مرتبطة بالتأخير في الدفع من جهة، وفضائح الفساد التي طالت بعض تلك الشركات في فنزويلا. وأمّا الثاني، فيعود إلى التقلبات الدراماتيكية التي شهدتها أسواق النفط العالمية، حين تراجع سعر الخام الفنزويلي من مئة دولار للبرميل في عام 2014، إلى 24 دولاراً في عام 2016.
وبالرغم من استقرار الأسعار العالمية على معدّل 50 دولاراً للبرميل، بعد سلسلة الخطوات التي اتخذتها «أوبك»، إلا أن ذلك لم يكن كافياً لإنعاش الاقتصاد الفنزويلي، الذي بات يعاني من عجز مزمن في العملات الصعبة.
وبالرغم من تلك الصعوبات النقدية، التي جعلت فنزويلا تواجه صعوبات جدية في شراء الأغذية والأدوية، وتسديد الديون، أو حتى فوائدها، إلا أن الحكومة اليسارية سرعان ما وجدت من ينقذها ــ ولو بشكل جزئي ــ من خلال خط ائتماني جديد وفّرته روسيا، في مقابل شحنات نفطية، وهو ما ساعد حكومة الرئيس نيكولاس مادورو على دفع جزء من المستحقات المترتبة عليها.
ولكن الأهم ممّا سبق أن الديون الروسية لصالح فنزويلا ــ والتي تشير التقديرات إلى تجاوزها 17.5 مليار دولار منذ عام 2006 ــ فتحت الباب أكثر أمام انخراط الشركات الروسية في قطاع النفط الفنزويلي، إذ باتت شريكة في الكثير من المشاريع النفطية، من خلال الاستحواذ على أصول في شركة النفط الفنزويلية الوطنية (بي دي في أس آيه).

موسكو: نحن لن نخرج
من هناك نهائياً، ولا أحد
يمكنه إخراجنا

وثمة مفارقة مثيرة للاهتمام، في هذا السياق، وهي أنه بخلاف باقي الشركات المتعددة الجنسيات، التي قلصت أعمالها فنزويلا، لا سيما بعد الأزمة السياسية بين مادورو ومعارضيه، فإن الشركات الروسية اتخذت مساراً عكسياً؛ فشركتا «لوك أويل» و«روسنفت» باتتا قادرتين على بيع 275 ألف برميل يومياً من النفط الفنزويلي (حوالى 14 في المئة من إجمالي انتاج البلاد)، حتى إن رئيس «روسنفت»، إيغور سيتشين، صرّح أخيراً بلهجة صارمة: «كما قلت مراراً وتكراراً، نحن لن نخرج من هناك نهائياً، ولا أحد يمكنه إخراجنا، وسنعمل مع فنزويلا، بل سنزيد حجم التعاون في ما بيننا».
وبحسب تقارير اقتصادية نُشرت خلال الأشهر الماضية، فإن «بي دي في أس آيه» أجرت مفاوضات «سرّية» مع «روسنفت»، عرضت خلالها على نظيرتها الروسية حصصاً في تسعة مشاريع نفطية، أبرزها على الإطلاق حصة 10 في المئة من أسهم «مشروع بتروبيار»، الذي تستحوذ فيه شركة «شيفرون» الأميركية على 30 في المئة من الأسهم.
ومن بين العروض المقدّمة للشركة الروسية حصص أخرى في مشروعي «ماريسكال سوكري» في البحر الكاريبي و«تيلابا» في بحيرة ماراكايبو، ويشملان ثلاثة حقول نفطية، وحقلي غاز طبيعي، إلى جانب تعزيز الرقابة الادارية على مشاريع مشتركة بين الجانبين.
والجدير ذكره في هذا السياق أن «روسنفت» باتت تملك حالياً حصصاً هائلة في المشاريع النفطية الخاصة بـ«بي دي في أس ايه»، بما يجعلها الشريك الأساسي للشركة الوطنية الفنزويلية في حزام أورينوكو النفطي (الخزان الأكبر في فنزويلا) حيث تستحوذ على حصة 40 في المئة في «مشروع بتروموناغاز»، و40 في المئة في «مشروع بتروفيكتوريا»، و32 في المئة في «مشروع بتروميراندا»، إضافة إلى 40 في المئة في «مشروع بتروبيريخا» في بحيرة ماراكايبو، و40 في المئة في «مشروع بوكيرون» في خليج باريا.
ولا شك في أن لروسيا وفنزويلا مصلحة مشتركة في إبرام مزيد من الاتفاقات الثنائية في مجال النفط والغاز؛ فالأولى تدرك جيداً أنه علاوة على الفائدة الاقتصادية، فإنّ قطاع الطاقة ميدان حيوي لتوسيع النفوذ في منطقة الكاريبي، المعروفة تاريخياً بأنها حديقة خلفية للولايات المتحدة. وأما الثانية، فإنّ الضغوط الدولية المفروضة عليها، لم تبقِ أمامها سوى منقذ وحيد: فلاديمير بوتين.
ولعلّ الأمر قد يكتسب بعداً أكثر أهمية بالنسبة إلى روسيا، إذا ما تعلّق بمقارعة الولايات المتحدة بالغاز الفنزويلي، وذلك في حال نجحت «روسنفت» في السيطرة على شركة المصافي «سيتغو» المملوكة من قبل «بي دي في أس ايه»، التي تتخذ من مدينة هيوستن مقراً لها، والمملوكة من قبل فنزويلا منذ نهاية الثمانينيات، وهي توفر عمليات التكرير لنحو 800 ألف برميل في اليوم، من أصل 20 مليون برميل تستهلكها السوق الأميركية يومياً.
وفي الوقت الراهن، فإن «بي دي في أس آيه» تمتلك 49.5 في المئة من أسهم «سيتغو»، وقد وضعتها كضمان لقرض بقيمة 1.5 مليار دولار لمصلحة «روسنفت» في تشرين الثاني الماضي، ما يعني أنها قد تنتقل إلى الأخيرة في حال عجزت الشركة الفنزويلية عن السداد.
ومن المؤكد أن الشركة الروسية لن تجد صعوبة في شراء أسهم قليلة تمكّنها من تملك «سيتغو»، بما يشكله ذلك من تهديد مباشر ــ وإن محدود ــ لسوق الطاقة في الولايات المتحدة، وهو ما دفع عدداً من أعضاء الكونغرس إلى توجيه كتاب مفتوح إلى الإدارة الأميركية، يحذّر من خطورة هذه الخطوة في ما يتعلق بـ«أمن التزود بالوقود وتوزيع البنزين على المستهلكين الأميركيين، وتعريض البنى التحتية الأميركية الأساسية لتهديدات تتعلق بالأمن القومي»... لا بل إنّ أصواتاً أخرى في مجلسي النواب والشيوخ راحت تعلو لمطالبة الرئيس دونالد ترامب بالتفكير في النتائج العكسية للتهديدات التي أطلقها مؤخراً بشأن إمكانية فرض عقوبات على قطاع النفط الفنزويلي.