لندن | لم يتمالك معظم البريطانيين أنفسهم من الضحك مع تكرار المشاهد الهزليّة المطعّمة بالرموز، التي ما لبثت أن تواردت تباعاً أمام أعينهم في مؤتمر حزب المحافظين الحاكم الذي اختتم أعماله الأربعاء في مانشستر – وسط البلاد – بخطاب لرئيسة الوزراء تيريزا ماي.
فوزير الخارجيّة بوريس جونسون – وصقر «البريكست» ــ الذي تحوّل إلى ما يشبه نجماً أوحد في المؤتمر بسلوكياته وتصريحاته الخارجة دوماً عن السياق، حضر كلمة ماي وهو يحمل جريدة قديمة تتحدث في عناوينها عن خطوط حمر رسمتها الرئيسة العتيدة في مفاوضاتها مع الاتحاد الأوروبي بشأن «البريكست» خلال مرحلة سابقة واضطرت بعدها إلى التراجع عنها. وبينما كانت الرئيسة تلقي خطابها، قاطعها ممثل كوميدي معروف، فتقدم إلى المنصة وسلمها نموذج الـ«P45»، وهو الخطاب الرسمي الذي يحصل عليه الموظف لدى فصله من منصبه، قائلاً لها «إن بوريس هو الذي أرسلني»، كناية عن الصراع العلني بينها وبين وزير خارجيتها حول مسائل «البريكست».

تحوّل بوريس جونسون
إلى نجم أوحد
بسلوكياته وتصريحاته
ولم تكد الرئيسة، التي أحرجت وقبلت النموذج، تتجاوز تلك المقاطعة حتى أصيبت بكحّة شديدة استدعت من وزير ماليتها أن يسعفها بكأس ماء، بينما تساقطت أحرف من شعار الحزب عن «حكومة قوية وراسخة» عن الجدار خلف المنصة، بينما ماي تلقي خطابها. بالتزامن، كانت تظاهرتان منفصلتان تعمّان الشوارع الرئيسة في مانشستر، إحداهما كانت تهتف لرئيس حزب «العمال» جيريمي كوربن وتدعو إلى إسقاط ماي، والأخرى معادية لـ«البريكست»، وتدعو إلى بقاء المملكة في فضاء الاتحاد الأوروبي.
إذا تركنا هذه الأجواء الأقرب إلى «الكوميدية» منها إلى مؤتمر لحزب يدير البلاد في واحدة من أدق انعطافات تاريخها المعاصر، فإن المؤتمر فشل في تحقيق أهدافه.
فبينما كانت تيريزا ماي ترغب في توظيف المؤتمر كقاعدة لإعادة إطلاق مهنتها رئيسة للوزراء بعد نتيجة الانتخابات العامة الأخيرة المخيّبة (التي فقد فيها الحزب أغلبيته المطلقة)، بدت بالفعل أكثر ضعفاً. وقد أحصت إحدى الصحف 25 مرشحاً ومرشحة طامحين إلى المنصب التنفيذي الأرفع، تراوحت حظوظهم بين 4:1 في صناديق المراهنات (على بوريس جونسون تحديداً) إلى 100:1. ماي فشلت سواء على مستوى الحضور الشخصي أو برنامجها المقترح لبناء «الحلم البريطاني» في الحصول على رضى الجمهور، مقارنة أقله بالشعبيّة الهائلة للزعيم كوربن، ولأجندته التي باتت تحظى بقبول قطاعات أوسع من السكان. ولعل توقيت مؤتمر مانشستر كان سيئاً من ناحية أنه تبع مباشرة استعراضاً هائلاً للوحدة والشعبيّة في مؤتمر حزب «العمال» المعارض الأسبوع الماضي.
قيادة «المحافظين» كانت تطمح، بدورها، إلى أن تكون محطة مانشستر فرصة لتمتين المناعة الداخليّة للحزب بعد المناوشات المتعددة وصراعات قمرة القيادة التي تحوّل كثير منها إلى العلن، وتهدد بانفراط الحكومة المستندة إلى تحالف مهزوز مع حزب إيرلندي شمالي هامشي. لكن الحقيقة أن المؤتمر كرّس الشقاق، وأبرز صراعات الخلافة رغم التماسك والانضباط الذي ينبغي أن يكون في حزب مركزي التركيبة مثل المحافظين (أقله مقارنة بحزب العمال الذي هو تحالف قوى متنوعة نقابية وحزبيّة وثقافيّة).
في النتيجة، الهجومات الشخصيّة والفكريّة على كوربن لم تؤثر بالناخبين في ما يبدو، والتجريحات الشخصيّة أيضاً (قال بوريس جونسون في خطابه إنه سيطلب من شقيقه وزير العلوم أن يرسل كوربن إلى مدار في الفضاء الخارجي ضمن برنامج الحكومة لارتياد الفضاء وذلك كي ينقذ بريطانيا منه)، فانتهى الأمر باستمرار شعبيّة الزعيم اليساري بالتصاعد.
التركيز على الأجندة الداخليّة وخطط الحزب الحاكم لاستقطاب الشباب إلى مواقفه على حساب موضوعة «البريكست» التي وكأنها ساحة معركة خاسرة إلى الآن، لم تبدُ في أي لحظة فعالة أو قادرة على استمالة الناخبين الغاضبين. فقد قدّم الحزب في المؤتمر سلسلة من الإجراءات التي «ستكفل بتحقيق تحسّن في حياة البريطانيين» في ما يشبه حلماً بريطانياً – على نسق فكرة الحلم الأميركي ــ، لكن كل السياسات المقترحة كانت باهتة، غير مؤثرة وغير حازمة في حماية الطبقات الأقل حظاً من المواطنين.
ورغم الدفاع المثير عن الرأسماليّة الذي قدمته ماي في خطابها، مستدعية ذكرى جدّتها التي «كانت مدبرة منزل، لكنها عملت بجدّ ليكون أحفادها اليوم ثلاثة بروفيسورات، إضافة إلى رئيسة وزراء»، فإن ما تعهدت به يقصر بالحقيقة عن تقديم بديل مقنع في مواجهة المناخ الاقتصادي الصعب، مقارنة مثلاً بمانيفستو حزب العمال أو حتى في مواجهة واقع سياسات التقشف القاسية التي فرضتها حكومات المحافظين منذ عقد تقريباً.
وفوق كل ذلك، بدا المؤتمر – وفق معظم المراقبين ــ أشبه بنادٍ للبريطانيين التقليديين من ذوي البشرة البيضاء حصراً، إذ لم تبذل جهود تذكر لاستقطاب الأقليّات أو المهاجرين من المنابت غير البريطانيّة.
إذاً، فقد الحزب الحاكم فرصة ثمينة لتعديل الدّفة واستعادة الألق المفقود أو الوحدة الداخليّة بعد التراجع الملحوظ في ثقة الناخبين، وتأكد أن ماي باقية في عرشها ضمن سياسة اليوم بيوم، لحين أن تطيحها خناجر الرفاق، بمن فيهم جونسون، بينما بدا جيريمي كوربن كأنه الكاسب الأكبر.