الطريق من مطار فنوكوفو الدولي إلى وسط موسكو بدا شاهداً على حفاوة الاستقبال. صور الملك سلمان، وعبارات الترحيب باللغتين العربية والروسية، التي امتدت على طول المسار الذي سلكه الموكب الملكي المتخم بالحاشية التي احتلت الفنادق الفخمة المطلّة على الساحة الحمراء، جعلت المواطنين الروس، بما في ذلك الغارقون في هموم الحياة بعيداً عن السياسة، على يقين بأن زيارة ذلك الضيف القادم من صحراء العرب إلى أرض القياصرة ليست عادية.
استثنائية الزيارة لا تقتصر على طابعها الملكي غير المسبوق في تاريخ العلاقات الروسية ــ السعودية، ولا يمكن اختزالها، بطبيعة الحال، بالصفقات المليارية التي أبرمت في سياقها، بل في ما تعكسه من «تحوّل كبير» ــ والتوصيف هنا لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ــ لا شك في أنّه يقابل بترقّب متعدد الأطراف عابر للقارات.
ولا شك في أن كافة محللي السياسات، من واشنطن إلى طهران، وبينهما الدول المتأثرة بتحوّلات المشهد الدولي والإقليمي، يعكفون، حالياً، على فك كل الرموز المتصلة بالزيارة الملكية، وما رافقها وسبقها من تصريحات ومواقف، أكثرها غموضاً ما صدر عن الرئيس فلاديمير بوتين، أول من أمس، حين ردّ على سؤال بشأن مستقبل الشراكة الأميركية ــ السعودية، بالقول: «هل يوجد في العالم شيء دائم بشكل مطلق؟».
ومن المؤكد أن ما قاله بوتين عشية زيارة الملك سلمان، سيكون له الأثر الكبير في تحليلات المسؤولين الأميركيين، إذ من شأنه أن يطرح تساؤلات جدية حول تحالف السبعين عاماً بين الولايات المتحدة والسعودية، وما يعنيه تجاوز موسكو والرياض لإرهاصات الماضي القريب، الممتدة من الثمانينيات الأفغانية، والتسعينيات الشيشانية... وصولاً إلى الألفية السورية والليبية... الخ.
وبصرف النظر عن النتائج السياسية المحتملة للزيارة الملكية، خصوصاً في ظل استمرار التباين في السياسات بين موسكو والرياض حيال الكثير من القضايا الإقليمية ــ ولا سيما في ما يتعلق بالصراع السوري والعلاقات مع إيران ــ فإنّ ثمة إجماعاً على أن ذهاب الملك سلمان إلى موسكو، في هذا التوقيت بالذات، يشي بأن ثمة مرحلة جديدة قد بدأت في العلاقات الثنائية، بعد عقود طويلة من الجمود الذي لم يكن يخرقه سوى التوتر العدائي.
وإذا ما قيست العلاقات بين الدول بالسنوات، أمكن القول إنّ تاريخ العلاقات الروسية ــ السعودية، التي تعود إلى تسعة عقود، لم تكن تعرف تقارباً كالذي تشهده اليوم سوى خلال عقدين مقسّمين بالتساوي، بين عشرة أعوام تلت الاعتراف السوفياتي بالمملكة السعودية، وعشرة أعوام أخرى تلت الزيارة الرئاسية الروسية الأولى للرياض.
ولعلّ رحلة سريعة في ذاكرة العلاقات الروسية ــ السعودية تبدو كفيلة، بما فيه الكفاية، للدلالة على طبيعة التحوّل الذي تُتوِّجُه زيارة الملك سلمان. وأمّا بدايتها، فهي عام 1938، حين أغلقت البعثة الدبلوماسية السوفياتية في جدّة، مع بدء ظهور التباينات في السياسات الإقليمية بين الطرفين، مع سعي السعودية للتقارب مع الولايات المتحدة، في بدايات الحقبة البترولية.
تلك العلاقات اتخذت منحى أكثر خطورة طوال العقود اللاحقة، سواء في مرحلة الحرب الباردة، والانخراط السعودي المباشر في «الجهاد ضد الشيوعية» في أفغانستان، أو مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، حين كانت المملكة الوهابية مصدراً للفكر المتشدد الذي غزا الشيشان وبعض جمهوريات آسيا الوسطى، لا بل كانت المموّل للحروب «الجهادية» التي استهدفت روسيا في تلك الفترة.
كان ينبغي الانتظار حتى عام 2007 لتكريس أوّل انفتاح جدّي بين روسيا والسعودية، حين حلّ الرئيس فلاديمير بوتين ضيفاً على الملك عبدالله، سرعان ما سلك مساراً معاكساً للمأمول، حين وقف الطرفان على طرفي نقيض من الصراعات الملتبهة في الشرق الأوسط، في مرحلة «الربيع العربي» ــ ولا سيما في سوريا ــ أو حتى حين اختارت روسيا الشراكة مع إيران النووية، في مقابل التصعيد السعودي الهستيري ضد الجمهورية الإسلامية.
مع ذلك، فقد استمر التعاون الروسي ــ السعودي على المستوى الاقتصادي، انطلاقاً من عوامل موضوعية تجعل الطرفين عاجزين عن سلوك خيار القطيعة، لأسباب عدّة، تتفاوت بين التخندق الواحد أمام الحرب الناعمة، الدائرة في ميدان سوق النفط من جهة، والحاجة الروسية ــ السعودية المشتركة إلى التبادل على المستويات الاقتصادية المتعددة.
وإذا ما تمت مقاربة المسألة وفق المقولة الماركسية التقليدية بأن «السياسة اقتصاد مكثّف»، أمكن فهم الديناميات الدافعة باتجاه تحوّل مرتقب في العلاقات الجيوسياسية بين روسيا والسعودية. ولكن الاقتصاد ليس المحرّك الوحيد لهذا التقارب/ التحوّل، فثمة أسباب عدّة تجعل السعودية في أمسّ الحاجة إلى إعادة مراجعة سياساتها الخارجية باتجاه روسيا.
وعلى مستوى الإقليم، بشكل عام، تنطلق الخيارات السعودية المرتقبة من أمر واقع فرضه التدخل العسكري والسياسي الروسي في الشرق الأوسط، على النحو الذي جعل موسكو اللاعب الرئيسي في المشهد الجيوسياسي، مدفوعة بتحالفات جديدة ــ أو «شراكات» وفق الأدبيات الموسكوفية ــ تمتد من إيران إلى تركيا، مروراً بسوريا، في مقابل تذبذب الاندفاعة الأميركية، التي كادت تجعل الولايات المتحدة قبل عقد من الزمن القوة الدولية الوحيدة المتحكمة.

الصفقات المليارية تعكس
رغبة الملك في تحصين برنامج وليّ العهد الاقتصادي


هذا الأمر يدفع، من دون أدنى شك، السعودية إلى تقارب وثيق مع روسيا، أو على الأقل يجعل الأبواب مشرّعة لشراكة استراتيجية تقيها عواصف المتغيرات الإقليمية والدولية، في حال استقرت موازين القوى على الشكل الذي يطمح إليه سيّد الكرملن.
وقد تكون الخيارات السعودية، في هذا السياق، نابعة من التذبذب الذي عصف بعلاقاتها مع الولايات المتحدة، في أواخر عهد باراك أوباما، حين شعرت المملكة النفطية بـ«خيانة» أميركية، حين انحازت لخيار «السلام النووي» على حساب حليفها التاريخي، فيما لم يؤدِّ وصول دونالد ترامب إلى تبديد الهواجس، في ظل إدراك المسؤولين السعوديين أنّ سيّد البيت الأبيض عاجز عن تنفيذ وعوده الانتخابية بالتراجع عن تسوية فيينا.
وأمّا على المستوى الداخلي، فثمة يقين بأن انتقال عرش آل سعود من الملك إلى ولي عهده بات مسألة وقت قصير، وهو ما يستوجب البحث عن ضمانات، في ظل ما يمكن رصده من هواجس مرتبطة أساساً بالخيارات المرتبكة للأمير الشاب، والتي يمكن أن تجعل حكمه المستقبلي غير مهيّأ لرياح التغييرات الجيوسياسية الإقليمية والدولية المرتقبة، خصوصاً أن مرحلة تدرّبه على الحكم ليست موفّقة، كما يتبدّى من إخقافات الحرب اليمنية وانتكاسات الأزمة السورية.
علاوة على ما سبق، من الجائز أن تكون الصفقات المليارية المرافقة للزيارة الملكية عنصر اطمئنان آخر بالنسبة إلى الملك سلمان، الراغب في تحصين البرنامج الاقتصادي لولي العهد، والمعروف باسم «السعودية 2030»، بإيجاد شريك اقتصادي يمكن الركون إليه، في مرحلة التحوّل الاقتصادي التي تحوم حولها الكثير من الشكوك.
رغم كل ما سبق، لا يمكن الجزم بأنّ التحوّل سيكون تلقائياً؛ فالسعودية هي السعودية، وروسيا هي روسيا، والخيارات التحالفية للأولى ما زالت حتى الآن تدور في الفلك الأميركي، والخلافات بشأن الملفات الإقليمية ليست بالسهولة التي تجعل حلّها ممكناً بزيارة ملكية، مهما اتّسمت بها من حرارة. ومع ذلك، فإنّ ثمة قاعدة يبدو أنها باتت تحكم العلاقات العابرة للحدود، تنطلق من مقولة فلاديمير بوتين بأنّ «كل شيء في العالم يتغيّر».




«أس 400»... و«كورنيت»

وقّعت السعودية مع روسيا، على هامش زيارة الملك سلمان لموسكو، عقوداً لشراء عدد من أنظمة التسليح، من بينها نظام الدفاع الجوي المتقدم «إس 400».
كذلك تم الاتفاق على شراء الرياض لنظام صواريخ «كورنيت ــ إي.إم.»، القادرة على ضرب الأهداف الأرضية والجوية، وراجمة الصواريخ «توس ــ 1 إيه»، وراجمة القنابل «إيه. جي. إس ــ 30»، وبنادق كلاشنيكوف «إيه. كيه. 103» وذخائرها.
ووقّع الجانبان مذكرة تفاهم لنقل وتوطين التقنية لتلك الأنظمة إلى المملكة، بحسب وكالة الأنباء السعودية الرسمية، التي لم تذكر قيمة تلك الاتفاقيات.
وجرى التوقيع على الاتفاقيات بين كل من الشركة السعودية للصناعات العسكرية (حكومية)، وشركة «روزوبورن اكسبورت»، وهي شركة تصدير الأسلحة والمنتجات العسكرية الروسية.
(الأخبار)