موسكو | مضى أسبوع على انتهاء الماراثون النووي، بين طهران ومجموعة «5+1»، ولكن التحليلات حول هذا الحدث التاريخي ربطاً بموقع موسكو فيه لن تنتهي قريباً، لا سيما أن العلاقات بين إيران وروسيا كانت ملبدة بالغيوم منذ توقيع البلدين، في عام 1994، عقداً لبناء محطة بوشهر النووية، التي كان ينبغي تسليمها إلى إيران في عام 1999.منذ ذلك الحين، بدأت لعبة الكر والفر بين الدب الروسي والأسد الإيراني، ولم يساعد تنحّي الرئيس بوريس يلتسين الخانع أمام الغرب واعتلاء فلاديمير بوتين سدة السلطة، في عام 2000، على تشغيل المحطة التي ازدادت كلفتها من 800 إلى مليار ومئتي مليون دولار، والتي عزا الباحث في مركز الدراسات السياسية الإيرانية حسن بهشتي بور سبب التأخير في تشغيلها إلى الضغط الأميركي على روسيا.

ومن المثير أن وثيقة من موقع «ويكيليكس» نشرتها صحيفة «يديعوت أحرونوت»، في عام 2011، كشفت أن بوتين أمر بشكل سري، عام 2006، بعرقلة البرنامج النووي الإيراني. وفقاً للصحيفة، فقد التقى المدير العام للجنة الإسرائيلية للطاقة النووية جدعون فرانك، في 7 شباط 2006، السفير الأميركي لدى تل أبيب وأطلعه على مضمون مباحثات أجراها مع المدير العام لشركة «روس آتوم» الحكومية الروسية، سيرغي كيريينكو، الذي أبلغه أن الروس سيؤخّرون تسليم إيران وقوداً نووياً إضافياً لمحطة بوشهر «لأسباب فنية»، وذلك بأوامر شخصية من بوتين، وهو ما أدى إلى تأجيل تدشينها إلى مطلع عام 2011.
تمسك روسيا بورقة مهمة هي علاقاتها الجيدة مع إيران والسعودية وتركيا والأردن والعراق

أزمة ثانية لبّدت غيوم العلاقات الثنائية، بعد توقيع عقد لتزويد طهران بأربعين بطارية صاروخية من منظومات الدفاع الجوي الروسية «إس-300 بي إم أو-1»، عام 2007. آنذاك، أوقف الرئيس الروسي ديميتري ميدفيديف الصفقة تلبية لقرار أممي، وبعد زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لموسكو ووعوده، التي لم تتحقق، بتزويدها بخمسين طائرة من دون طيار. استمر الأمر إلى أن رفع بوتين، في نيسان الماضي، الحظر عن توريد هذه الصواريخ، ما أوحى بأن الروس يريدون إفهام الأميركيين أن مرحلة التنازلات، التي كانت تقدم عليها موسكو في مرحلة التعاون معهم بعد انتهاء الحرب الباردة، قد انتهت في ظل المواجهة القائمة بين موسكو وواشنطن.
وعلّق الصحافي الروسي مكسيم شيفتشينكو على ذلك بالقول إن «موسكو كانت تذل طهران باستمرار»، واصفاً التعامل معها بشأن بوشهر بـ«المخزي»، وبشأن صفقة الصواريخ بـ«المخجل».
في ضوء ذلك، برزت هناك مخاوف لدى المحلّلين من أن تقوم موسكو بإفشال عمل مجموعة «5+1»، ولكن اللافت أن هذا الأمر لم يتحقق، بل على العكس فقد كان لها دور محوري في إنجاح الاتفاق، وهو ما دفع الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى الاتصال بنظيره الروسي وشكره على ذلك.
وبعد نجاح المباحثات مع طهران سأل شيفتشينكو: «ما هي حاجة إيران الآن إلى روسيا؟»، مضيفاً: «نحن كما كنا دائماً، نأتي إلى المائدة بعد خبز الكعكة وبدء الآخرين بالتهامها».
هذا يعني أن الصحافي الروسي يتخوّف من أن يجعل إلغاء العقوبات طهران أكثر استقلالية عن موسكو، وبالتالي لن تعود بحاجة إلى أخذ المصالح الروسية بالاعتبار في جنوب القوقاز مع أرمينيا وآذربيجان وفي آسيا الوسطى، مثلاً، وكذلك مصالحها الاقتصادية النفطية والغازية، لا سيما أن الرئيس الإيراني حسن روحاني صرّح بأن بلاده تستطيع بعد رفع العقوبات تصدير 25 مليار متر مكعب من الغاز إلى أوروبا، التي تشتري الآن 125 ملياراً من شركة «غازبروم» الروسية. كذلك أمل نائب وزير النفط الإيراني، ركن الدين جوادي، عودة صادرات إيران من النفط الخام إلى المستويات التي كانت عليها قبل العقوبات، في غضون ثلاثة أشهر من التوصل إلى اتفاق نووي مع القوى الكبرى، والتي تبلغ نحو 2.5 مليون برميل يومياً من 1.5 مليون برميل، ما سيخفّض أسعار الذهب الأسود بنحو 10 دولارات للبرميل.
غير أن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف صرّح للقناة الروسية الأولى، غداة التوصل إلى الاتفاق، بأن روسيا كانت ولا تزال شريكاً استراتيجياً لطهران، مؤكداً العمل على توسيع التعاون الاقتصادي بين البلدين بعد رفع العقوبات.
من جانبه، أعرب بوتين عن أمله بأن يطلق الاتفاق التعاون النووي المدني بين روسيا وإيران، وقال: «بالطبع ستزيد إيران من إنتاج النفط، وهذا أمر طبيعي، وسيعتاده الاقتصاد العالمي، لكن حجم الاستهلاك سيزداد أيضاً، ونحن أعددنا العدة لذلك».
 لكن رفع الحظر عن توريد الأسلحة إلى إيران، الذي عوّلت عليه موسكو، لن يتم قبل خمس سنوات، رغم إمكان ذلك بقرار أممي لمحاربة الإرهاب. وتعوّل موسكو، الآن، على تفعيل التعاون بين البلدين في المجالات النووية وسكك الحديد والتنقيب عن النفط والغاز وغير ذلك. وعلى أي حال، يبدو أن الاقتصاد كان يقبع خلف السياسة، في صدارة الأهداف الروسية من المساعدة في عقد الاتفاق. وقد بدأت تظهر أولى بوادر الانفراج السياسي في شرق أوكرانيا، لا سيما بعد «إجبار» واشنطن كييف على إدخال قانون في الدستور الأوكراني يمنح دونباس بعض حقوقها. وما كان ذلك ليتم من دون حضور مساعدة وزير الخارجية الأميركي، فيكتوريا نولاند، شخصياً إلى البرلمان الأوكراني.
الاتفاق سيسمح أيضاً بإزالة العوائق أمام تشكيل تحالف واسع ضد تنظيم «داعش» الإرهابي، وفق وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، خصوصاً أن جميع الأطراف في مأزق، بما فيها روسيا، التي يقاتل ألفان من مواطنيها مع «داعش» في سوريا والعراق. ويشدّد المسؤولون الروس على ضرورة تعاون الأطراف كافة للخروج من هذا المأزق لكي يخيّم الانفراج على منطقة الشرق الأوسط الملتهبة. وقد أكد السكرتير الصحافي للرئيس الروسي، ديميتري بيسكوف، أن الحوار بين روسيا والولايات المتحدة بشأن سوريا متواصل.
وتمسك روسيا، الآن، بورقة مهمة هي علاقاتها الجيدة مع إيران والسعودية وتركيا والأردن والعراق، لمحاولة تمرير تسويات لبؤر الصراع في الشرق الأوسط.
وبذلك، يكون الكرملن قد مهّد لعودته لاعباً رئيساً في المنطقة، فقد قال الخبير الروسي سيرغي سيريوغيفيتش إن «الانتصار الأكبر لروسيا في هذا الاتفاق سيتمثل في استعادة مكانتها في الشرق الأوسط».