لا شك في أنّ سيرة دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، التي يقدّمها الكاتب والصحافي الأميركي مايكل وولف في كتابه الصادر أخيراً، «نار وغضب»، بناءً على أكثر من 200 مقابلة أجراها مع موظفين كبار في البيت الأبيض ومقرّبين من ترامب، «غير اعتيادية». ولعلّ ذلك أحد أهم أسباب الاهتمام الكبير الذي حظي به الكتاب وردود الفعل التي أثارها في ظلّ حرب مفتوحة تشهدها بلاد «العم سام» بين معظم الإعلام الأميركي و«رجل الأعمال»، حيث لا يمرّ أسبوع دون كشف «فضائح» أخلاقية وسياسية واقتصادية تخصّ الرئيس.
ورغم أنّ وولف تنبأ بأنّ كتابه «سينهي عهد ترامب»، قد يكون من الحكمة التذكّر أنّ الكتاب يقدّم سيرة رجل «غير اعتيادي» أيضاً، استطاعت حملته تخطّي فضائح وتسريبات كانت ستدفن آمال أي مرشّح آخر في الوصول إلى الرئاسة في الولايات المتحدة. حملة لم يكن ترامب نفسه، ولا الفريق المحيط به، يتوقعان الفوز بها أساساً، كما يخبرنا الكتاب. هذا «في الداخل»، أما على الصعيد الخارجي، فيظهر جلياً ما يُروى عن ترامب «من دون دليل ملموس». فهو يرى كل شيء من باب المال والأعمال، ويتّصف بالعجرفة والتسلّط. يوزّع (ما بقي من) فلسطين المحتلة «لحلفائه». يسرّه وضع «رجله» على «رأس السلطة» في الرياض مقابل مليارات الدولارات. يرى «السعوديين والمصريين على حافة الهاوية، ويخشون الفرس»، إذاً نعطيهما «ما يريدانه في ملف إيران»، وهما «يضغطان على الفلسطينيين للقبول بالصفقة». في النتيجة، ما يجمع بين تصرفات ترامب في سنته الرئاسية الأولى وما كشفه الكتاب صفة أساسية: معتوه



تبدأ الحكاية منذ الأيام الأولى لانطلاق حملة دونالد ترامب للرئاسة، عندما طلب من الرئيس التنفيذي السابق لشبكة «فوكس نيوز» (الذي استقال من منصبه إثر اتهامات عدة بالتحرش الجنسي) رودجر إيلز، إدارة حملته الانتخابية. وهو طلبٌ رفضه إيلز معتبراً، بحسب الكتاب، أنّ ترامب «غير منضبط، ولا يمكنه الانضمام إلى أي منظمة ولا التزام أي برنامج أو مبدأ. إنّه ثائر بلا قضية». ويتابع الكاتب أنّ هدف ترامب من الترشح لم يكن الفوز في البداية، فهو قد أسرّ إلى أحد مساعديه، سام نونبرغ، عند بداية الحملة، بأنه يريد من الحملة أن تجعله «الرجل الأكثر شهرة في العالم» لتكريس «علامته التجارية» وفتح فرص تجارية جديدة، عملاً بنصيحة رودجر إيلز: «إذا أردت العمل في مجال التلفزيون بنجاح، فترشح أولاً للرئاسة». ولعلّ الدليل على ذلك تمنّع ترامب عن استثمار ماله الخاص في الحملة، بحسب الكتاب، وتقديمه 10 ملايين دولار فقط بعد الضغوط شرط استعادتها لاحقاً بعد توفير التمويل الإضافي.
ومن الأمور اللافتة التي يكشف الكتاب بعضاً من خلفياتها، علاقة ترامب بالإعلام وأسلوبه الحاد في انتقاد الصحافيين الذين يخالفونه الرأي. فمدير حملته ومستشاره السابق ستيف بانون يقول، بحسب الكتاب، إنّ ترامب، خلافاً لما يظهر، كان يتوق بشدّة إلى أن يتقبّله الإعلام، ولكنه ليس من النوع الذي يلتزم خطاباً معدّاً له، فـ«عقله لا يعمل بهذه الطريقة». ويضيف بانون أنّ ترامب «لم يكن يوماً ليفهم الأمور على حقيقتها، كذلك فإنه لا يعترف أبداً بأخطائه»، وتلك ليست من الصفات التي تحبّب الصحافيين بك عموماً. ويورد الكاتب في هذا السياق حديثاً هاتفياً جرى بين ترامب والإعلامي جو سكاربورو، إذ سأله الأخير: «بمن تثق؟ من هو الشخص الذي يمكنك التحدث معه في هذه الأمور قبل أن تقرر إعلانها؟»، فأجاب ترامب: «لن تعجبك إجابتي، ولكنني أتشاور مع نفسي».

أخذ ابن سلمان
الضوء الأخضر لإزاحة محمد بن نايف


ومن بين التفاصيل الأخرى الواردة في الكتاب حول تصرفات ترامب الغريبة وذعره الدائم، سلسلة الإجراءات التي طالب بتطبيقها لدى وصوله إلى البيت الأبيض، مثل المطالبة بتزويد باب غرفته بقفل (ما أثار جدلاً بينه وبين عناصر «الخدمة السرية» المكلفين حمايته)، وتوبيخه لعمّال التنظيف إثر إزالتهم قميصه عن الأرض قائلاً: «إذا كان قميصي ملقىً على الأرض، فذلك لأنني أريده هناك». ومن القواعد الأخرى التي فرضها ترامب في البيت الأبيض، منع أحد من لمس أغراضه الشخصية، «وخصوصاً فرشاة أسنانه، بسبب تخوفه الدائم من تسميمه» بحسب الكاتب. هذا الخوف هو سبب تفضيل ترامب تناول الطعام لدى «ماكدونالدز»، لأن الوجبات هناك تكون معدة مسبقاً، فاعتاد الرئيس بالتالي تناول الـ«تشيزبرغر» في غرفته وحيداً.


ميلانيا «زوجة/ جائزة»

كذلك، في الجزء الذي يتناول علاقة ترامب بزوجته ميلانيا، يؤكد لنا الكتاب أنّ ترامب لا يشذّ، في حياته الشخصية، عن أدبياته المهينة للمرأة التي ملأت عناوين الصحف خلال حملته. فيقول الكتاب إنّ ترامب غالباً ما كان يصف زوجته للآخرين، بفخر وبجدية، بأنها «زوجة/ جائزة»، إضافة إلى نظرياته الكثيرة التي كان يناقشها مع أصدقائه حول علاقاته مع النساء وتبريره للخيانة بين أشياء أخرى. لا شك في أنّ إحدى المفارقات في هذا الكتاب هي في التفاصيل الحياتية والشخصية التي يسردها وولف عن دونالد ترامب، والتي قد لا تشكل مادة مهمة في سيرة أي رئيس آخر. ولكن الفارق هنا أنّ ترامب، سواء أراد ذلك أو لا، قد كرّس لنفسه هذه «الشخصية» (persona) عبر خطابه العام وتصرفاته. وبالتالي، تصبح هذه التفاصيل ذات أهمية لأنها تؤكد ما يشتبه فيه الجميع: أنّ ترامب «معتوه»، بعض الشيء أقلّه، وأنه، بابتذاله وتعجرفه، انعكاس وتجسيد فعلي للصورة الكاريكاتورية لثقافة «العم سام» التي تصدّرها أميركا للعالم.


في السياسة: استعراض وأجندات معدّة

من بين المواضيع السياسية الكثيرة التي يتناولها الكتاب، من سياسة ترامب الخارجية ونظرته لروسيا والصين والشرق الأوسط والاتحاد الأوروبي وغيرها، يبدو أنّ نمط إدارة ترامب في السياسة قائم على القرارات الاستعراضية وتلك المعدة مسبقاً، وكلاهما يهدف إلى القطع النهائي مع كل ما عملت لأجله الإدارات السابقة.
فأحد القرارات الاستعراضية التي اتخذها ترامب باكراً، إلى جانب الجدار على الحدود المكسيكية، كان «الأمر الرئاسي لحماية البلاد من دخول الإرهابيين الأجانب إلى الولايات المتحدة»، أو ما عُرف إعلامياً بـ«حظر المسلمين من السفر إلى الولايات المتحدة». فما يكشفه الكتاب بشأن هذا القرار، تعمّد إدارة ترامب اتخاذه يوم جمعة، أي في أكثر الأيام ازدحاماً في المطارات حول العالم، لكي يسبّب أكبر قدر ممكن من العرقلة والصخب. فيرد في الكتاب، نقلاً عن ستيف بانون، الذي «تبنى الفوضى كاستراتيجية»، أنّ الهدف من اتخاذ هذا القرار كان «دفع الليبراليين إلى التظاهر وممارسة الشغب في المطارات، لإظهارهم على أنهم مجانين ولدفعهم أكثر نحو يسار الطيف السياسي». ويقول الكاتب إنّ هذا بالتحديد هو ما حدث، فقد استفظع الإعلام الليبرالي هذا القرار، وساهم ذلك في تظهير القطع الحاسم مع الإدارات السابقة.


قرار السفارة متخذ

أمّا في ما يخص قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس والاعتراف بالقدس «عاصمة لإسرائيل»، يكشف الكتاب أنّ هذا القرار متخذ مسبقاً منذ البداية، إذ ينقل وولف عن لسان بانون: «سننقل السفارة الأميركية إلى القدس في اليوم الأول. (رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين) نتنياهو موافق على المشروع، وكذلك شلدون (آدلسون، الملياردير الذي يملك كازينوهات في لاس فيغاس واليميني المتطرّف المدافع عن إسرائيل)». ويتابع بانون، بحسب الكتاب: «فليأخذ الأردن الضفة الغربية، ولتأخذ مصر قطاع غزّة. فليتولّوا هم هذه المسألة، أو فليغرقوا وهم يحاولون». واللافت في هذا السياق أنّ أحد الأمور التي كررها ترامب خلال حملته هو سعيه إلى إبرام «صفقة العصر»، بحسب تعبيره، في ما يخصّ الصراع العربي ــ الإسرائيلي، الصفقة التي اعتبرت الصحافة الإسرائيلية، تعليقاً على ما جاء في الكتاب، أنها لا تهدف «إلى تحقيق الآمال الفلسطينية، بل إلى دفنها».
ويشرح الكتاب خلفية تفكير إدارة ترامب في هذا الخصوص، إذ يقول إنّ «توجه ترامب الجديد في الشرق الأوسط هو الآتي: هناك أربعة لاعبين أساسيين: إسرائيل ومصر والسعودية وإيران. يمكننا توحيد الثلاثة الأوائل ضد الرابعة (إيران). وإذا أعطينا مصر والسعودية ما تريدانه في ملف إيران، وأي ملف آخر لا يهدد مصالح الولايات المتحدة، فإنهما ستضغطان على الفلسطينيين للقبول بالصفقة هذا كل ما في الأمر».


ابن سلمان: ثِقوا بي

وفي هذا السياق تحديداً، يمكن فهم صعود محمد بن سلمان بدعم من واشنطن. فالكتاب ينقل مثلاً عن بانون أنّ «السعوديين على حافة الهاوية، والمصريين كذلك... جميعهم يخشون الفرس»، ويكشف أنّ ولي العهد محمد بن سلمان قدّم نفسه لجارد كوشنر، صهر ترامب وكبير مستشاريه، على أنهّ الرجل الذي يمكن الوثوق به في المملكة، على قاعدة «أعطني ما أريد وخذ مني ما تريده». وبالتالي، يقول وولف، أخذ بن سلمان الضوء الأخضر لإزاحة محمد بن نايف وليتولى هو فعلياً زمام السلطة، وأخذ ترامب ما كان يريده: شراء السعوديين أسلحة أميركية بقيمة 110 مليارات دولار فوراً، وبقيمة إجمالية تبلغ 350 مليار دولار على مدى 10 سنوات، تحقيقاً لأحد شعارات حملته «مئات مليارات الدولارات كاستثمارات في اقتصاد الولايات المتحدة، ووظائف وظائف وظائف». ونتيجة لذلك، ينقل الكاتب عن ترامب قوله لمجموعة من الأصدقاء أنه وكوشنر نجحا في «إيصال رجلهما (محمد بن سلمان) إلى القمة».




قمة الرياض: تحوّل في السياسة الخارجية

«شكلت قمة الرياض، بحسب الكتاب، لحظة تحوّل دراماتيكي في السياسة والاستراتيجية الخارجيتين للولايات المتحدة، ذات تبعات شبه فورية. فالرئيس الأميركي، متجاهلاً أو ربما متحدياً النصائح الموجهة إليه حول السياسة الخارجية، وافق ضمناً على خطة السعوديين لمهاجمة قطر. فقد اعتبر ترامب أنّ قطر تقدم الدعم المالي إلى المجموعات الإرهابية، متجاهلاً سجل السعودية الطويل في تقديم هذا الدعم أيضاً. (المنطق الأميركي الجديد هو أنّ بعض أفراد الأسرة الملكية السعودية، لا كلهم، يدعمون المجموعات الإرهابية).