تُمثِّل مراقبة الأحداث في أميركا الجنوبية، ومتابعتها، واجباً من شأنه تشكيل وعي سياسي معاصر. فهناك اشتعلت شرارة العمل الحكومي المناهض للرأسمالية في مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. وهناك أيضاً تستعر المواجهة بين استراتيجيات الأوليغارشيا والشعب في سياق السباق نحو السلطة، بمشاركة مباشرة ومفتوحة من الولايات المتحدة الأميركية.
(...) من جديد، وبعد عقد من هزائم الأوليغارشيات وعرابيها الأميركيين من بلد إلى آخر، تتكشفُ استراتيجية انتقامية لمواجهة اليسار، سواء كان في السلطة أو يناضل لاستعادتها، كما هي الحال في البرازيل.
تختلف في أحيان كثيرة أساليب تلك المواجهة الانتقامية من بلد لآخر. (...) في هندوراس يُستخدم أسلوب العصا الغليظة، حيث زُوّرت نتائج الانتخابات بنحو فاضح (لمصلحة المرشح القريب من واشنطن)... ويُلاحق المرشحون بنحو ممنهج وبكل السبل الممكنة. في فنزويلا، شهدنا أساليب زعزعة الاستقرار بنحو عنيف ومؤامراتي، بدعم من الآلة الإعلامية العالمية. (كمثال) لا يمكننا أن ننسى صرخات حنق القيادي السابق في جيش الشعب الثوري الأرجنتيني في السبعينيات، الذي تحوّل اليوم إلى «صحافي» في جريدة «لوموند» الفرنسية، يكتب تحت اسم باولو بارانغوا، وقد صار ناشطاً سياسياً يُعبِّر عن أحقاد أقصى اليمين.

نشهد أيضاً كيف أنّ الحرب المقامة ضدنا، تتخذ غالباً مسار تطويع الأدوات القضائية. مثلاً، للقضاء على حزب شعبي، يُرمى بقادته في السجون، أو يُزجُّ بهم في مسارات قضائية مشينة لا تنتهي. وهذا يحصل إلى درجة أنّه في شكله الأكثر فظاظة، يمكننا الحديث عن انقلاب مؤسساتي. هذا ما جرى في الباراغواي حيث قامت المحكمة الدستورية ببساطة بإسقاط الرئيس. وفي سيناريو مشابه، أُطيح رئيس هندوراس الأسبق مانويل زيلايا.
بطبيعة الحال، إنّ تنحية رئيسة البرازيل ديلما روسيف (قبل نحو عام)، تُمثّل علامة فارقة في هذا المجال. لاحقها فاسدون مشهورون، هم أنفسهم كانوا محل متابعة في عدد من القضايا، وجرت في ما بعد تنحيتها، دون أي إيماءة دعم من أصدقائها الجدد في الأحزاب الاشتراكية العالمية، علماً بأنّ هؤلاء كانوا يعبّرون في أوقات سابقة عن حبهم لها. وفي باريس، حيث خشيت مُلاقاتنا مخافة إزعاج اللطيف فرنسوا هولاند، وقفنا وحدنا للدفاع عن كرامتها وكرامة البرازيليين الذين كانوا يناضلون ضد هذا الانقلاب.
البرازيل ليست فقط القوة الأكبر في أميركا الجنوبيّة، وليست فقط الدولة التي تضمّ أكبر عدد سكان هناك، بل هي مكوّن أساسي لمجموعة «البريكس» التي تُمثِّل تحالفاً سياسياً ــ اقتصادياً غير رسمي، وتضمّ روسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا، أي نحو 40 في المئة من مجموع الإنتاج العالمي. وهو تآلف بين مجموعة دول قررت يوماً ما أن تبدأ التعامل في ما بينها من خلال العملات المحلية بعيداً عن الدولار الأميركي، ما يُمثِّل تهديداً قاتلاً للقوة العظمى.
عشية الانتخابات الرئاسية المرتقبة في هذا البلد، يأخذ الصراع على السلطة بُعداً جيوسياسياً جوهرياً. تمنح جميع الاستطلاعات الأفضلية للمرشح لولا دا سيلفا، مؤسس حزب العمّال البرازيلي (تنتمي روسيف إليه)، الذي سبق له أن حكم البلاد قبل عهد روسيف، مفتتحاً حقبة الانتصارات الشعبية في تلك القارة. وبالتالي، يُعَدّ إسقاطه هدفاً حيوياً للأوليغارشيا والولايات المتحدة. بغية تحقيق هذا الهدف، فإنّ لولا الذي نجا لحسن الحظ من إصابة بالسرطان، هوجِمَ من خلال الجبهة القضائية، كما حصل سابقاً مع روسيف. وفي نهاية الشهر الماضي، حكمت محكمة بورتو أليغري المحلية عليه بـ12 عاماً سجناً، وهو حكم شدّد حكم الدرجة الأولى من التقاضي الذي كان يقضي بالسجن لتسعة أعوام. (...) لكن بما أنّ الأدلة المقدّمة ضده ضعيفة، بل لا وجود لها، فقد كان واضحاً للمتابعين أنّ ما يجري هو بمثابة مناورة تهدف إلى منعه من أن يكون رئيساً لمرة جديدة. وتشوب المحاكمة نفسها عدة مخالفات، وهو ما أكده ما قضاة من عدة دول... (وبالتالي) تعكسُ هذه المحاكمة جيداً الأسلوب الجديد من «الانقلابات المؤسساتية».
وكما ذكرتُ سابقاً، فإنّ ديلما روسيف نفسها التي كانت رئيسة البرازيل حتى عام 2016، قد دفعت تلك التكاليف... حيث نحّاها مجلس الشيوخ الذي يسوده اليمين الرجعي. ذريعة المتآمرين تمثّلت بالفضيحة التي كانت تهزّ المجتمع البرازيلي في حينه، وهي مسألة التقارب بين شركة النفط الوطنية «بتروباس» وعالم السياسة. وهي ذريعة كاذبة تجعل القضية غير شرعية، إذ إنّ روسيف لم تكن معنية بها. وعلى عكس ما حصل معها، اتُّهم ميشال تامر، الذي خلفها في الرئاسة نتيجة هذا الانقلاب، بعد أشهر قليلة بالقضية نفسها! لكن بطبيعة الحال، صوّت البرلمان الذي يهيمن عليه أصدقاؤه لمصلحة الإبقاء على حصانته وعدم إجازة محاكمته.
وفي كلّ الأحوال، يحكم اليمين الانتقامي القريب من الولايات المتحدة البرازيل منذ عام 2016 دون أن يكون منتخباً. ولمواجهة هذا الواقع، قرر لولا العودة إلى الخط الأمامي والترشح للانتخابات الرئاسية المرتقبة في شهر تشرين الأول. وبينما تمنحه الاستطلاعات الأسبقية على غيره، أصبح من الملحّ منعه من قبل الأوليغارشيا والولايات المتحدة. (...) برغم ذلك، فإنّ لولا، الذي تقدّم بطلب مراجعة أمام المحكمة الفدرالية العليا، سيُكمل حملته، حتى من داخل السجن.
(...) حالة لولا مهمّة، فهي تمثّل معركة فاصلة في صدّ محاولة الولايات المتحدة وضع يدها من جديد على حكومات أميركا الجنوبية. ذلك لأنّ البرازيل ليست البلد الوحيد المعنيّ بأسلوب «الانقلاب المؤسساتي»، إذ يبدو أن الالتقاء بين الرجعيّة واللجوء إلى الأشكال المؤسساتية لتغطية الانقلابات بصدد الانتشار والتكيّف مع أوضاع جميع بلدان المنطقة.
*مقالة نشرها السياسي الفرنسي قبل يومين على مدونته بعنوان «لولا ونحن»، وتُرجمَت هنا مختصرة وبتصرف