نواكشوط | تتفق غالبية الساسة والمحللين في موريتانيا حالياً على أنّ المشهد السياسي في البلاد لا يخلو من التأزم البالغ؛ فما يعكسه من قلقٍ واحتقان يوضّح جيداً أن أزمةً كبيرة تطبعه في شتّى تمظهراته، وتعطي، عند النظر إلى الواقع، انطباعاً مفاده أنّ أغلب الأحداث السياسية في الفترة الأخيرة إنمّا تأتي ردَّ فعلٍ على هامشها. هل يعني هذا أنّ المشهد السياسي بعامته محكومٌ كلياً بتلك الأزمة البالغة الصعوبة؟ وبالتالي، فهو في كل تفاعلاته وتجاذباته، إنما يدور في فلكها؟ هذا ما يبدو حتّى الآن.
عند مراجعة الفترة الأخيرة، بتفحص متأنٍّ، وخصوصاً في جانب التطورات المتصاعدة بشدّة فيها، يتضح جيداً، حينذاك، أنّ تلك الأزمة كانت من القوة بمكان درجة إرغام كل فعلٍ سياسي على التفاعل معها بطريقة ما. هكذا لم يخل أيّ موقفٍ/تموقع سياسيّ من الإشارة الصريحة أو الضمنية إلى وجود أزمةٍ تمثّل عقبةً أمام أيّ تحوّل ديموقراطيّ جادّ. مع ذلك، وبالرغم من الاتفاق شبه العام على وجود أزمة حادّة، والمطالبة بحلّها وتجاوزها، فإنّ اتفاقاً بشأن أسباب هذه الأزمة وطبيعتها بقي يتعذّر على الدوام، بالرغم من الحاجة الماسة له.
إنّ كل طرفٍ من الأطراف المكوّنة للمشهد السياسي في البلاد يقدّم رؤيته لطبيعة الأزمة وأسبابها، انطلاقاً من موقعه السياسي العام. وفي هذا الصدد يمكننا إجمال الرؤى المقدمة ضمن إطارين بارزين: في الإطار الأول، وهو الأبرز ميدانياً وإعلامياً، تأتي المعارضة، كتشيكلةٍ سياسية عامّة، لتعتبر أنّ أساس الأزمة يتمثل في غياب الشرعية الديموقراطية في الحكم، في إشارة واضحة منها إلى تولي الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز، حكم البلاد من طريق انقلاب عسكري. أما الإطار الثاني، المنحصر على الجهات الرسمية وأحزاب الموالاة الدّاعمة للنظام الحاكم، فيعتبر أنّ سبب الأزمة القائمة هو عجز المعارضة عن المساهمة السياسية البناءة وقيامها بالتشويش على النظام الحاكم بدلاً من تشجيع سياساته.
بالطبع، لقد كان سؤال الشرعية الديموقراطية مطروحاً بقوّة في السياق السياسي الموريتاني المعاصر. وبما أنه لا يمكن تجاهل الانقلاب العسكري (2008) للجنرال محمد ولد عبد العزيز، على الرئيس المدني المنتخب سيدي ولد الشيخ عبدالله، فإنه كذلك لا يمكن تجاهل أنّ القوى السياسية الفاعلة في الساحة قد قامت، في ما بعد، بالدخول في حوارٍ سياسي في العاصمة السنغالية دكار بغية نقاش نتج منه اقتراح حلولٍ للقضايا العالقة سياسياً، كقضية شرعية الحكم. وبالرغم من المسار القلق لذلك الحوار إلا أنه قد أفضى، في النهاية، إلى حالة تسوية مراعاة دولياً ونتج منها في عام 2009 إجراء انتخاباتٍ رئاسية فاز بها ولد عبد العزيز.
لقد كان ذلك إضفاءً للصبغة المدنية على النظام العسكري الوليد، ولكن سؤال الشرعية لم يخفت كلياً إثره كما كان يتوقع البعض، فالمعارضة الموريتانية، بدأت بعده مباشرةً باعتبار الانتخابات مزورةً، وللحظةٍ بدا كما لو أنها تلقت درساً قاسياً. فالتوافق الشكليّ الذي حصل حينها، عدا أنه قد ساعد النظام الجديد في تحسين صورته لدى الخارج الأوروبي والغربي، وما يترتب عن ذلك من إتاحة قروض وفرص اقتصادية كبرى، فهو أيضاً في نتائج اجتماعه قد خضع للخرق من قبل النظام، كما ترى المعارضة. إلا أنّ المعارضة، ستقوم بعد ذلك بفترةٍ وجيزة، وتحديداً منذ نهاية 2010، بانتهاج سياسية مطالبة قوية برحيل النظام عن الحكم، مدفوعةً هذه المرة لا فقط بشروط الواقع المحليّ المتدهور على شتى المستويات، بل أيضاً بما يجري حينها في الساحة العربية من احتجاجاتٍ شعبية مطلبية.
وبلغ التأزم مداه عندما أجريت انتخابات رئاسية 2014 وقاطعتها المعارضة في أقوى تشكيلاتها السياسية والحزبية، فكان طبيعياً حينها أن يفوز الرئيس مجدداً ويتمكّن من الحصول على مأموريةٍ ثانية سيجري في ظلّها هي الأخرى الكثير من الصراع السياسي. صراع ازدادت حدّته في السنوات الأخيرة بفعل ما نجم عن حوار تشرين الأول/ اكتوبر 2016 الذي جاء كمناقشةٍ سياسية لأمور كثيرة، ولكن المعارضة، الموصوفة بالراديكالية، قاطعته أيضاً هذه المرة. فالحوار الذي طالب به النظام الحاكم ورعاه لم يكن مغرياً بالنسبة إليها، خصوصاً أن النظام لم يقدّم ضماناتٍ مكتوبة كانت المعارضة قد اشترطتها، مبدئياً، للدخول معه في حوارٍ سياسي جادّ يصعب خرق اتفاقياته.

شيئاً فشيئاً يبدو الواقع كما لو أنه يتصالح مع تعديلات النظام

ذلك الحوار الذي نُظّم في أجواء متوترة، وقاطعته قوى المعارضة الأساسية، تطرّق على مدى أيامٍ عدة لبعض النقاط القانونية والسياسية المختلفة تماماً عن النقاش الذي كان سائداً من قبل. هكذا كانت محصّلة ما توصل إليه المشاركون فيه، وهم من الموالاة الداعمة وبعض أحزاب المعارضة الوسطية: إلغاء غرفة الشيوخ في البرلمان الموريتاني، واستبدال مجالس جهوية محلية بها، رأى المتحاورون أنها أقلّ تكلفة وأكثر قرباً من المواطن ومساعدة على عملية التنمية، ثم إدخال تعديلات على العلم والنشيد الوطنيين، قصد المتحاورون منها التعبير عن تضحيات جيل المقاومة وقيم البلاد الثقافية. وكما كان متوقعاً، جاء ردّ فعل المعارضة المقاطعة منطوياً على الكثير من إدانة ما جرى والمطالبة بإلغائه، بعدما رأت فيه تعدياً سافراً على دستور البلاد وبنيتها القانونية والمؤسسية المنتسبة إلى عهد النشأة. وكتأكيدٍ منها على أن الحوار جاء أحادياً لترسيخ سلطوية النظام الحاكم، أشارت المعارضة إلى المطالبة بثلاث مأموريات (ولايات) رئاسية في أجواء الحوار، ما من شأنه أن يفتح الباب أمام بقاء الرئيس الحاليّ الموشك على إنهاء مأموريته (ولايته) الثانية في السلطة، وخصوصاً بعد إلغاء أهمّ غرفة في البرلمان تمتلك من الصلاحيات الدستورية ما ينافس تقريباً صلاحياته ويقيّدها بالموافقة.
في غضون أشهرٍ قليلة، وعلى الرغم من الرفض الاحتجاجي عند الشيوخ وأحزاب المعارضة والشعب الموريتاني، استطاع النظام الحاكم أن يجسّد نتائج الحوار ممثلة بالنقاط أعلاه من طريق استفتاء شعبيّ تمادى في الدعاية له، عبر حملاتٍ وتحالفاتٍ كبرى، دون أن يثير، في ميعاد التصويت المقرّر، حماسة حقيقية في الشارع الموريتاني. ومع ذلك، وبالرغم أيضاً مما قوبل به الرفض الشعبي والسياسي من قمعٍ بوليسيّ جرّاء الاعتراض على الاستفتاء والتعديلات الدستورية، فإنّ الصراع في الساحة السياسية لم يخفّ بعد.
واليوم، بعد كلّ ذلك الجدل، أصبحت موريتانيا في حلةٍ جديدة تقريباً. وشيئاً فشيئاً فإنّ الواقع يبدو كما لو أنه يتصالح مع التعديلات الجديدة بسبب الرعاية الرسمية الجمّة لها، التي لا تقتصر فقط على البعد المؤسساتي والإداري النشيط، بل تشمل أيضاً العواقب القانونية القاسية المترتبة عن مخالفتها سياسياً على أرض الواقع. ومجدداً بطريقةٍ أو بأخرى: فإن الصراع السياسي العام يعود بقوّة لموضوع الشرعية. وهذه المرة ليس الشرعية في صيغتها الأولى، أي شرعية نظامٍ سياسي حاكمٍ من عدمها أساساً كما كان الحال قبل سنوات قليلة، وإنما شرعية تعديلاتٍ دستوريّة جزئية أجريت برعاية منه. وفي ما يتضح، فإنّ هذا التحوّل في مشكل الصراع السياسي يتناسب تدريجاً مع التطوّرات العامة المؤثرة على الخطاب السياسي المقدّم. وعلى كلّ حالٍ، يبقى التأزم السياسي مستمراً، لا فقط بسبب الخلاف بين أقطاب الساحة السياسية، بل أيضاً بسبب التردي الذي يشهده الوضع المعيشي لغالبية السكان في البلاد.




الخريطة السياسية: «الحاكم» محورها


شهدت الخريطة السياسية لموريتانيا تطوراتٍ عدة منذ لحظة إعلان الاستقلال الوطني عن فرنسا (1960)، ومروراً بأوّل انقلابٍ عسكريّ (1978) تلته انقلاباتٍ عدة أخرى. وبالوصول إلى اللحظة الراهنة، بقيت الخريطة السياسية، كالعادة، تتحدّد انطلاقاً من موقف الجهات فيها إزاء النظام السياسي الحاكم.
لكن أخيراً، وبسبب معركة التعديلات الدستورية وما نجم عنها من تأثيرات قوية، أخذت الخريطة شكلاً جديداً: فإلى جانب المعارضة ممثلةً بتحالف أحزاب «المجموعة الثامنة» (G8) وبعض الحركات السياسية والشبابية، هناك أيضاً أحزاب المعارضة المحاوِرة للسلطة (أي المنخرطة في حوار السلطة والموافقة على نتائجه، وأبرزها حزب التحالف الشعبي التقدمي) وأحزاب الموالاة الدّاعمة للنظام الحالي (الاتحاد من أجل الجمهورية، وهو عملياً الحزب الحاكم)، على الجبهة الأخرى. ما يعني أن أغلب ما يجري سياسياً في البلاد محكوم بهذا التموقع القائم.