تعمل «الأكاديمية المجرية للعلوم» على مصادرة المجموعة الكاملة للمخطوطات والمراسلات للفيلسوف الماركسي المجري جورج لوكاتش، من موقعها في مركز الأبحاث المخصص لـ«أرشيف لوكاش» والمفتوح للباحثين من الأكاديميين وللناشطين السياسيين وغيرهم، بحجة أنهم يريدون خلق نسخ رقمية للمجموعة. ولكن يُحذِّر مثقفون مجريون أنّ نية الأكاديمية ليست بهذا الصفاء، ذلك أنّ هذا القرار يندرج في إطار التحوّل الذي هيمن على الأكاديمية منذ سقوط الاشتراكية في البلاد لمصلحة الديموقراطية الليبرالية عام 1989، كما يقول تقرير منشور على موقع «جاكوبين».
ويشير روبرت ناراي، وهو أحد محرري كتاب مؤلّف من مجموعة غير منشورة من أعمال لوكاتش، إلى أنّ هذا القرار يقع في سياق محاولة الحكومة المجرية اليمينية «إعادة كتابة ماضي البلاد» عبر الاستيلاء على مؤسسات عدة.
قد لا يهتم الكثيرون بالخبر لاعتبارهم أن لوكاتش نموذج لفيلسوف فاشل، أو قد يرون أن أعماله، وإن كانت ذات قيمة تاريخية، لم تعد صالحة لحاضرنا. وفي الواقع، فقدت أعماله أهميتها مع حلول الثمانينيات والريبة التي هيمنت حينها على «الإنسانيات» والعلوم الاجتماعية والسياسية حيال النظريات الشمولية.

أما اليوم، مع تعدد الأزمات التي يشهدها العالم، بين الاقتصادية والإيكولوجية والسياسية، واتضاح أنّه لا جدوى من الحركات الاجتماعية والسياسية «التقدمية» في تشكيل بدائل للأنظمة المهيمنة، وتفاقم حدة اللامساواة والتطرف، وتحوّل دول كاملة إلى ساحات حروب أخرجت بلاداً وشعوباً من التاريخ، تعود الحاجة إلى الفهم الشمولي، أي فهم هذه الأزمات بتعدديتها في إطار نظرية واحدة تربطها ببعضها؛ نظرية تفهم الرأسمالية كآلة كليّة، تصنع وتدمرعالماً بأسره.
تأثر لوكاتش خلال فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى بالحركة الرومنسية التي كانت على مشارف الانتهاء، وألّف عدة كتب يدرس من خلالها التوتر القائم بين الأثر التجزيئي لاختبارنا للعالم الناتج من نمط الحياة في الحداثة وبين رغبتنا لتوحيده. أما خلال الحرب العالمية الأولى، فقد عاد لوكاتش إلى هيغل والمثالية الألمانية، ما جعله لاحقاً عرضةً لتهمة الاتحاد السوفياتي بأنه مثالي يرفض المادية التاريخية الماركسية، وذلك عند إصدار أهم مؤلفاته «التاريخ والوعي الطبقي»، وخُيِّر بين الرجوع عن آرائه أو الطرد.
كان الكتاب نتيجة دراسة لوكاتش بين عامي 1919 و1923 الأسس النظرية للماركسية وتتبعه جذورها إلى المثالية الألمانية، خاصةً أعمال فيشته وهيغل. وكانت إحدى أهم نتائج هذا البحث اعتباره أن الماركسية تدرس الرأسمالية لا كنظام اقتصادي فحسب، بل كنظام شمولي ذي آلية تحوّل البعد النوعي للحياة البشرية إلى مقياس كمّي للوقت، أي تحوّل العمل البشري إلى فائض قيمة. ورأى لوكاتش أن الرأسمالية تفصل تماماً بين السلع المنتجة ومنتجيها، أي العمّال. ما معناه أن الوجود البشري يجري اختزاله بأجسام معزولة تغذي نظاماً غريباً عنها. ورغم أنّ هذه المنتجات من صنع البشر، فإنّها لا تعبّر عن ذاتها إلّا بآليات اجتماعية تبادلية غير إنسانية كالمال، السوق، والربح، والأجور. وأدّى تأثره بالفلسفة الألمانية إلى تركيزه على الوعي، لا كمرآة للعوامل الاقتصادي، بل كعامل أساسي بذاته يظهر مدى شمولية منطق الرأسمالية. ورأى أن العمل السياسي مفصلي في تشكيل الأسس للوعي المدرك لحقيقة «مكننته» في خدمة الإنتاج. ولكن، فيما تهدف الرأسمالية إلى تحويل البعد النوعي إلى بعد كمّي لتحقيق أعلى درجة من الربح، يبقى العامل، كإنسان، على الطرف النوعي من العملية لأنه لا يختبر عمله اليومي كترجمة طاقة نوعية إلى فائض كمّي، وتفتح هذه الفجوة المجال لتناقض يسمح للعامل بأن يعي عوامل استغلاله.
اليوم، تبدو جذور الماركسية في المثالية الألمانية بديهية، وتتعرض المادية بأشكالها للنقد والمراجعة، وتنتشر النظريات حول الوعي وموقعه في تشكيل الواقع وعلاقته بالرأسمالية كنظام شمولي بمساعدة نظريات علم النفس التحليلي تارةً ونظريات علم الاجتماع وعلم الأعصاب الإدراكي تارةً أخرى، على عكس تلك الفترة التي لم يلقَ فيها الكتاب رواجاً، بحكم اختلافه عمّا اعتاده الشيوعيون حينها، بل جلب لكاتبه تهماً أجبرته على نشر سلسلة من التبريرات التي تبدو، في ضوء مخطوطات موجودة في مركز «أرشيف لوكاتش» الذي يجري الاستيلاء عليه من قبل الأكاديمية المجرية للعلوم، وكأنها لم تكن نابعة عن قناعة، بل عن ضرورة.