على الرغم من الحملات التي أطلقتها منظمات حقوقية تتخذ من العاصمة البريطانية مقراً لها لإلغاء الزيارة المقررة لولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، إلى المملكة المتحدة، أصرّت حكومة تيريزا ماي على استقبال من بات يُعدّ في أدبياتها «رائد الإصلاح» في المملكة، في مؤشر واضح إلى أن مصالح لندن تتقدم على كل ما عداها من اعتبارات، ولو كان بمستوى الجريمة المتواصلة المرتكبة في اليمن.
لم تكتفِ حكومة ماي بإعلان السابع من آذار/ مارس المقبل موعداً للزيارة، بل دشّنت مع الإعلان ما بدا أنها حملة لتلميع صورة ابن سلمان، وخطب وده قبيل طرح أسهم شركة «أرامكو» النفطية السعودية في اكتتاب عام أولي سيكون الأكبر في التاريخ، وتتطلع الحكومة البريطانية إلى أن لا يصبّ سوى في بورصتها.
وتولى وزير الخارجية، بوريس جونسون، أمس، مهمة «التلميع» تلك عبر مقال له في صحيفة الـ«تايمز»، أشاد فيه بما سماه «الإصلاح الحقيقي في غضون بضعة أشهر، بعد عقود من الجمود» في المملكة. ورأى أن ابن سلمان «يستحق الدعم لوضعه نهاية لمنع النساء من قيادة السيارات، وتخفيفه التمييز على أساس النوع الاجتماعي، ووضعه مستويات مستهدفة لإدخال النساء في سوق العمل»، متوجّهاً إلى رافضي الزيارة بالقول: «إذا كنت تميل لتجاهل هذه التطورات، فإنني أقول بكل احترام إنك ترتكب خطأ كبيراً». يتجاهل عميد الدبلوماسية البريطانية في حديثه هذا أعمال القمع والترهيب المتواصلة بحق المعارضين ونشطاء حقوق الإنسان، لكنه يستذكرهم بأمل «يتيم» في أن تبذل القيادة السعودية مزيداً من الجهود في المجال الحقوقي. أمل لا يستهدف جونسون من ورائه سوى تبرير استقبال «الملك غير المنصب»؛ بالنظر إلى أن «تسليم هذه الرسالة للسلطات السعودية، أو حل الخلافات بين الدولتين، يتطلب لقاءات شخصية بين زعيميهما».

تحاول حكومة
ماي إبطال الحجج
التي يتسلح بها
رافضو الزيارة


بالطريقة نفسها يعرّج جونسون على التورط البريطاني في الجرائم المرتكبة في اليمن، بفعل استمرار الحكومة في تزويد السعودية بأسلحة بلغت قيمتها، منذ اندلاع الحرب في آذار/ مارس 2015، 6.4 مليارات دولار. يبرّر ذلك بأن السعودية «من أقدم أصدقاء بريطانيا في المنطقة»، مشدداً على ضرورة التعاون الدفاعي معها بالنظر إلى أن الحكومتين «تعملان جنباً إلى جنب اليوم على التصدي لتصرفات إيران المدمرة في الشرق الأوسط، ونزع فتيل الحرب في اليمن»، في محاولة للإيهام بأن الرياض ليست الطرف المسؤول عن إشعال فتيل الحرب. غير أن جونسون لا يجد بداً من الدعوة إلى تسوية سياسية للأزمة في اليمن، وإيصال المساعدات إلى كل من يحتاج إليها هناك، في موقف مكرر لا يزال، إلى الآن، رهن الأقوال من دون الأفعال.
في الخلاصة، يريد المسؤول البريطاني إبطال جميع الحجج التي يتسلح بها معارِضو الزيارة، تلافياً لأي تشويش على مساعي حكومة ماي لشدّ السعودية إلى بورصة لندن بدلاً من بورصة نيويورك، التي كانت اتهمت منافستها بأنها «تفعل المستحيل» لاجتذاب الطرح العام الأولي لـ«أرامكو». وهذا هو عينه ما فعلته رئيسة الوزراء البريطانية، أول من أمس، عقب إعلان المتحدث باسمها موعد الزيارة، التي قال إنها «ستدشن حقبة جديدة من العلاقات الثنائية، ترتكز على شراكة تحقق مصالح واسعة النطاق لكل من المملكة المتحدة والمملكة العربية السعودية». إذ رأت ماي، التي تتطلع إلى تعزيز مكانة لندن كمركز مالي عالمي، أن «السعودية تتغير، وقد لاحظنا تطوير قطاعات مثل الصحة والتعليم والبنى التحتية والسياحة، والمملكة المتحدة رائدة عالمياً في هذه القطاعات، ما يخلق فرصاً للعمل معاً».
وفي رد مبطن على انتقاد منظمتي «العفو الدولية» و«ريبريف» تغاضي لندن عن «سجل السعودية الفظيع في مجال حقوق الإنسان»، ودعوتهما إياها إلى «تعليق مبيعات الأسلحة البريطانية للسعودية» التي «يُحتمل أنها تستخدمها في قصف المدنيين باليمن»، وفي رفض غير مباشر أيضاً لمطالبة تحالف «أوقفوا الحرب» وبرلمانيين بريطانيين بإلغاء زيارة ابن سلمان، اعتبرت ماي أن «علاقاتنا القوية مع السعودية تسمح لنا بالحديث صراحة، وفي شكل بناء، في قضايا أمنية إقليمية، وفي الصراعات والوضع الإنساني»، مضيفة، في بيان، أن «زيارة ولي العهد ستكون فرصة لنا وللمملكة العربية السعودية لمصلحة شعبينا».
على المقلب السعودي، بدأ محمد بن سلمان، قبيل زيارته المرتقبة إلى المملكة المتحدة والتي ستعقبها زيارة إلى الولايات المتحدة في الـ19 من آذار المقبل وفقاً لما أفاد به مصدر سعودي أمس، تكثيف مساعيه إلى تبييض «حملة التطهير» التي أطلقها مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، والتي لا تزال تثير الكثير من الشكوك لدى المستثمرين الأجانب، رادِعةً إياهم عن الاندفاع إلى السوق السعودية. دافع ولي العهد، في مقابلة مع صحيفة «واشنطن بوست» نُشرت ليل الثلاثاء - الأربعاء، عن تلك الحملة بالقول إنها «جزء من العلاج بالصدمة» بسبب تفشي الفساد في المملكة، مضيفاً أن «معظم المعتقلين يدركون أنهم ارتكبوا أخطاء كبيرة، وقد قاموا بالتسوية»، مشيراً إلى أن السعودية «لن تكون قادرة على تحقيق أهداف موازنتها دون وقف هذا النهب»، من دون تقديم إجابة شافية على السؤال الرئيس المتمحور حول كيفية جعل «النزاهة» منهجاً مستديماً، إذا ما تم التسليم أصلاً بأن حملة ابن سلمان تندرج في إطار مكافحة الفساد.
وفي وقت يجتهد فيه الرجل في «تغريب» الحياة الثقافية والاجتماعية في المملكة، محاوِلاً احتذاء معايير «الدول المتقدمة» في ما يطرحه من خطط ومشاريع، تنكسر لديه القاعدة لدى الوصول إلى مجال حقوق الإنسان، إذ تصبح «المعايير السعودية مختلفة عن تلك الأمريكية» وفقاً لما ورد في مقابلته مع ديفيد إغناتيوس. إجابة تنطوي على مؤشر جلي إلى اعتزام ولي العهد المضي في سياسة التضييق على المعارِضين والنشطاء، وإن استدرك مساعد له بأن الرجل «قد ينظر في إدخال إصلاحات في هذا المجال».
(الأخبار)