إذا ما استثنينا الإعلان عن الصاروخ الجوّال العامل بمحرك نووي، والذي لا سابق له، فلا مفاجأة سواه للقول إنّ استراتيجية كبيرة كاسرة للتوازنات حضرت في لهجة التحدي الكبيرة في خطاب فلاديمير بوتين.
الخطاب هو أيضاً ترسيخ للمسار التصعيدي الذي يدخل فيه القطب الروسي السابق للحرب الباردة مجدداً، إلى منازلة كونية مع الولايات المتحدة، وخصوصاً أن القليل الذي أُعلِنَ عنه يُعيد روسيا نحو السباق إلى التسلح الذي تنفخ فيه الولايات المتحدة، رغم التفاوت الكبير هذه المرة بين ميزانيات روسية لا تتعدى الـ ٦٠ مليار دولار، وميزانية أميركية تفوقها بعشرة أضعاف على الأقل، جرى للمرة الأولى منذ عقود تثبيتها لمدة عامين متتاليين عند عتبة الـ ٧٠٠ مليار دولار في الكونغرس قبل أسابيع، في حين تعذّر على إدارة باراك أوباما تخصيص ما يعود منها للعمليات والتسلح إلا لفترات قصيرة لا تتجاوز أشهراً.
اللافت أيضاً في خطاب الرئيس الروسي أنه يحرر نفسه من أيّ خطوط حمر في اللجوء الى الضربة النووية، لينشر المظلة النووية الاستراتيجية الروسية للمرة الأولى منذ أن طواها انهيار الكتلة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، قبل ثلاثة عقود. ورغم أن الرئيس الروسي لم يشر بوضوح الى هؤلاء الحلفاء، فإنّه قال: «إن أي استخدام للسلاح النووي ضد روسيا أو حلفائها، سواء كان بقوة صغيرة أو متوسطة أو أخرى، سنعتبره هجوماً نووياً على بلادنا. والرد سيكون فورياً مع كل ما يترتب على ذلك من عواقب». ذلك أن الانتشار الروسي الكثيف في سوريا، والاعتراض على الهجوم الأميركي لإلغاء الاتفاق النووي مع إيران، قد يتيحان مع بعض التسامح الزعم بأنّ مظلّة بوتين النووية قد تظلل حلفاءه في المستقبل من بحر قزوين، إلى الأبيض المتوسط.
«احتواء روسيا لم ينجح». قالها الرئيس فلاديمير بوتين بثقة وبقوة في خطابه أمام الجمعية الفيدرالية الروسية، الذي ضمنه رسائل حازمة للمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة. «نحن لم نخف أبداً خططنا... وعلى الرغم من جميع المشكلات، إنه لأمر مدهش أن تبقى روسيا القوة النووية الأولى. لا أحد أراد الحديث معنا، لا أحد أراد الإنصات إلينا. أنصتوا إلينا الآن!». وقد كشف الخطاب عن نجاح روسيا في بناء منظومات سلاح جديدة ومتطورة تسمح بتعديل موازين القوة والرعب والردع على النطاق العالمي وتشكل رافعة لسياسة جوهرها دفاعي، تهدف إلى إفشال استراتيجية الاحتواء الأميركية التي أسقطت الاتحاد السوفياتي منذ نيف وربع قرن، والمعتمدة منذ ذلك الحين ضدها، وانتزاع الاعتراف بها كلاعب دولي من الدرجة الأولى يتم التعامل معه على أساس الندية.
قامت استراتيجية الاحتواء على ركيزتين: العمل الدؤوب لتوسيع حلف شمالي الأطلسي شرقاً، وصولاً الى حدود روسيا والسعي المحموم لتطوير منظومات السلاح التقليدي والنووي لتأمين تفوق أميركي نوعي عليها. المرحلة الأولى من توسيع الحلف بدأت عام 1999 مع ضم تشيكيا وهنغاريا وبولندا إليه، تلتها مرحلة ثانية عام 2004 شهدت انضمام بلغاريا وأستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا. انضمام هذه البلدان إلى الحلف يعني عملياً تموضع قوات عسكرية أميركية فيها ونشر بطاريات منظومة الدرع الصاروخية في بعضها وتخزين قنابل نووية في بعضها الآخر، كما هي الحال مع عدد من دول الحلف كألمانيا وإيطاليا وهولندا وتركيا، حيث تحتفظ واشنطن بحوالى مئتي قنبلة نووية. قامت روسيا بوقف تمدد «الناتو» نحو حدودها بالتدخل العسكري المباشر في جورجيا وأوكرانيا وأظهرت عبر مشاركتها في الحرب السورية أنها قادرة على الشروع بعمليات عسكرية كبرى، بعيداً عن حدودها ولفترة طويلة زمنياً دفاعاً عمّا تعتبره مصالحها الحيوية، أي أنّها، بكلام آخر، منعت استكمال عملية حصرها داخل حدودها وعادت لاعباً على الساحة الدولية.
الركيزة الثانية، وهي المضي في سباق التسلح لتأمين غلبة نوعية على روسيا، أكدتها الوثيقة النووية التي أعلنها وزير الدفاع الأميركي جايمس ماتيس. وقد اعتبر وزير الخارجية سيرغي لافروف، في مداخلة أمام مؤتمر نزع الأسلحة، أنّ هذه الوثيقة تُشكِّلُ تغييراً جذرياً في الاستراتيجية النووية الأميركية، تؤثّر بشكل مدمر على الاستقرار والأمن الدوليين.
الاستعراض النووي للرئيس بوتين، بدأ بالصاروخ «سارمات RS-26Sarmat»، أو «الشيطان ٢» كما عمّده جنرالات «الناتو» الذين شُغِلوا به طوال العامين الماضيين. ورغم أنّ برامج تطويره بدأت عام ٢٠٠٩، فإنّ معرفة الأطلسيين والأميركيين به لم تكتمل إلا بعد إجراء تجارب ناجحة على إطلاقه في آب عام ٢٠١٦، للكشف عنه في تشرين الأول الذي تلاه. «الشيطان ٢» اختار الروس أن يصل مداه إلى عشرة آلاف كلم، وأن يقطع ٢٤ ألف كلم في الساعة، متجاوزاً سرعة الصوت عشرين مرة. وبوسع المئة طن التي يزنها، أن تتسلح بـ ٢٤ رأساً نووياً، لكلّ منها أن ينفصل ويصيب هدفاً مستقلاً، وتصل القوة التدميرية لكل منها إلى خمسة آلاف طن تفجيري، لتستحق اسم ساكن الجحيم الذي تحمله إذا ما قورنت بقنبلة هيروشيما التي لم تتجاوز الـ ١٨ كيلو طن.
ويصحُ القول إن مفاجأة الإعلان البوتيني بامتياز هي في الكشف عن صاروخ جوال يعمل بمحرك نووي. الصاروخ بمحركه لا مدى محدداً له، ولا زمن يحد قدرته على الاستمرار في التحليق في الجو ما شاء له المحرك النووي الذي لا تنضب طاقته أن يحلّق أياماً وأسابيع، وهو الأول من نوعه في مجال التسلح الصاروخي الذي لم يُقيَّض لجنرالات وجيوش ما قبل وما بعد الحرب الباردة على السواء أن يحظوا به، رغم سعير السباق الى التسلح، والميزانيات الضخمة التي خصصت لها. لا يجهل الأميركيون تقنيات الدفع النووي للصواريخ الجوالة، وقد امتلكوا برنامجاً مشابهاً في الستينيات، سرعان ما تخلوا عنه عام ١٩٦٨. الصاروخ مولود مكتوم الاسم في ترسانة فلاديمير بوتين، سيقلب مفاهيم الدرع النووي لأنه سيكون قادراً على التحليق في مسار متعرّج، ومنخفض لتجنب شبكة الدرع الصاروخية الأميركية في أوروبا، وخصوصاً أنّ «نقاطاً عمياء» كثيرة، لا تغطيها الرادارات الأطلسية، لا تزال تتخلل مناطق انتشار هذه الصواريخ.

حرر نفسه من أيّ خطوط حمر في اللجوء إلى الضربة النووية


ما ينحو إليه الخطاب البوتيني هو اندراجه بديهة في الزمن الانتخابي الرئاسي الذي لا ينبغي أن تشغل خواتيمه رئيساً مرشحاً إلى خلافة نفسه، دون أن يجد منافساً جديراً به. وهو خطاب يفيض بذلك عن الحاجات الانتخابية الفورية ليتصدى لكرة التحديات الأميركية المشتعلة، وخصوصاً بعدما استقرّ الأمر بالفريق الأميركي الأمني والدفاعي، على اعتبار روسيا التهديد الاستراتيجي الأول، وبالإجماع بين أعمدة الدولة العميقة في المخابرات والبنتاغون والأمن القومي، من مايك بومبيو، مروراً بجون كيلي، فجيمس كيلي، وانتهاءً بهربرت ماكماستر. وهناك ما يستدعي أكثر من مجرد استنفار للبوتينية، ففي الوثائق الاستراتيجية الأميركية التي توالى صدورها منذ أيلول الماضي، من وثيقة الدفاع الوطني، التي لم يكشف إلا عن القليل منها، إلى استراتيجية الأمن القومي التي أذاعها الرئيس دونالد ترامب، وصولاً إلى وثيقة النووي الأميركي الأخيرة، تصويب متضافر على ضرورة الإعداد لمواجهة روسيا، لأن هناك ما يستدعي إعلان تأهب لكل ما تستطيعه البوتينية، بعدما عادت المخابرات العسكرية الأميركية إلى أوراقها القديمة في الحرب الباردة، وأصدرت العام الماضي، للمرة الأولى منذ عام ١٩٩١، تقريرها السنوي عن التسلّح الروسي، كدليل عمل للأركان الأميركية. وأسهب هذا التقرير في الحديث عن مشاريع التسلح الروسية، والقدرات الحالية لروسيا، مع التركيز على برامج الصواريخ الجوالة. وتحدث التقرير بشكل خاص عن الخطة العشرية ٢٠١١-٢٠٢٠ «لتسلح الدولة» الروسية، ونزوع الروس إلى تفضيل الضربة النووية البعيدة، وإطلاقها من منصات متحركة، لا يمكن لشبكات الإنذار المبكر أن تتصدى لها، من بينها أيضاً صواريخ «كينجال» أو «الخنجر» التي يبلغ مداها ألفي كيلومتر، ويمكن إطلاقها من الطائرات.
بوتين أعلمَ الأميركيين بما باتوا يعرفونه أخيراً بسبب خطأ ضابط روسي ظهر في تقرير تلفزيوني قبل ثلاثة أعوام وهو يحمل خرائط لغواصة غير مأهولة، تحمل اسم المنظومة المتعددة الأهداف، وهي منظومة بقيت في حيّز التكهنات، إلى أن صدر تقرير أميركي قبل أسابيع يتحدث عنها، وهو ما تبرّع الرئيس بوتين بتأكيده.