عودٌ على بدء: هواجس أميركا إزاء النووي الإيراني. قد ينقطع، في الـ12 من أيار المقبل، السكون الرئاسي الأميركي إلى تجميد العقوبات بحق إيران، منذ أن ذيّلت إدارة أوباما، بتوقيعها، اتفاق الرابع عشر من تموز 2015 في فيينا، إلى جانب ألمانيا وفرنسا والصين وروسيا وبريطانيا، بعد أكثر من ثمانية أعوام من المفاوضات المعقدة والصعبة. نائب الرئيس الأميركي، مايك بنس، استعاد خطابه أمام الكنسيت الإسرائيلي في كانون الثاني الماضي، ليقول من فوق منصة اللوبي الصهيوني، «أيباك»، في واشنطن، إن الرئيس دونالد ترامب سينسحب من الاتفاق النووي مع إيران، إذا لم يتم تغييره.
يعبّر بنس، من دون منافس، عن الجناح الأكثر فجاجة في تأييده لإسرائيل داخل الإدارة الأميركية لأسباب أيديولوجية ــ دينية صرفة. تفسّر هذه الخلفية الدينية ــ الأيديولوجية إفراط بنس غير المسبوق في التشدد ضد إيران. لكن الأجنحة الأخرى في الإدارة لا تقلّ عداءً عنه لإيران، على تباين الخلفيات. تقود النواةَ العسكريةَ للإدارة الأميركية نزعةٌ ثأرية في مقاربتها الإيرانية، وأخرى شخصية. يُحمِّل جيمس ماتيس إيران ذنوب قتل العشرات من جنوده في العراق؛ فعقيداً عَرَف الجنرال ووزير دفاع ترامب، عن قرب، الكمائن والهجمات الدامية التي كانت تشنّها المجاميع العراقية ضد دوريات وتجمعات الاحتلال الأميركي، بعدما سلّحتها ودعمتها إيران.
هربرت ماكماستر، مستشار الأمن القومي، لديه هو أيضاً حسابات لا تزال عالقة منذ ثلاثة عقود، وتنتظر التصفية مع إيران التي تَقاطع صعودها الثوري في المشرق العربي لاحتواء التمدد الأميركي في لبنان، مع العمليات الاستشهادية التي دمّرت السفارة الأميركية في بيروت ربيع 1983، ثم ما لبثت أن أنزلت مقتلة مشهودة وغير مسبوقة بأكثر من مئتي جندي من الـ«مارينز»، تحت ما تبقى من ركام قاعدتهم المحصنة على مدخل مطار بيروت.
تتقدم قاطرة العداء والانتقام من إيران في محرك ثلاثي يدفع به اللوبي الصهيوني، واليمين الديني المسيحي، والجناح الثأري داخل الدولة العميقة. هذه القاطرة المثلّثة تدير حملة إعلامية ــ سياسية لصناعة إجماع أيديولوجي في الولايات المتحدة ضد إيران، باعتبارها مصدر الشر في العالم، ووريثاً «لامبراطورية الشر» الأخرى التي عمّد بها الأميركيون الاتحاد السوفياتي، غريم الحرب الباردة، إلى أن تلاشى في سديم التسعينيات.
وعلى الرغم من إلحاح دافع الانتقام وتقدّمه على ما عداه، إلا أن الانسحاب من الاتفاق النووي قد لا يكون الغاية الحقيقية لركون واشنطن مجدداً إلى هواجسها الإيرانية. والراجح حتى الآن أن واشنطن تطمح إلى إجراء تعديلات جوهرية على الاتفاق من ناحية، وربطه من ناحية أخرى بملف البرنامج الباليستي الذي يتقدم بسرعة، وتحجيم دور طهران الصاعد في الإقليم. ويقول لـ«الأخبار» خبير عربي يتابع عن قرب النقاش داخل الإدارة الأميركية في الملف الإيراني، إن العسكريين في الـ«بنتاغون» وأجهزة الأمن القومي أعدّوا تقييماً شاملاً لنتائج الاتفاق على مجرى البرنامج النووي الإيراني، الذي قد تتأخر بعض مفاصله حتى عام 2025، إلا أنه لن يصاب بعطب جوهري أو جذري لا يمكن للإيرانيين أن يعالجوه بسرعة، إذ سيكون في وسعهم الانطلاق بعد تطبيع علاقات إيران النووية مع الأسرة الدولية نهائياً، في منتهى مهلة الأعوام العشرة التي فرضها عليهم اتفاق فيينا، فضلاً عن احتفاظ المنشآت الإيرانية بقدرات كافية لتشغيل وتأهيل المزيد من الكوادر والعلماء، الذين يشكلون النواة الحقيقية والجانب الأهم في القدرة النووية الإيرانية، التي لن يتمكن أي اتفاق، مهما بلغت شدته، من احتوائها أو تدميرها. كذلك فإن قدرة الإيرانيين على تنشيط برنامجهم ستكون مشروعة وسريعة أيضاً إذا ما هوجمت بلادهم.
ويقترح العسكريون الأميركيون، في الشق المتعلق بالتعديلات، فرض المزيد من القيود، التي تشمل تخفيض نسبة تخصيب اليورانيوم التي حصلت عليها طهران في فيينا (3.67%). كذلك، يطالب العسكريون بفصل المزيد من سلاسل أجهزة التخصيب الحالية بعضها عن بعض، لتعطيل قدرة البرنامج النووي الإيراني على العودة بسرعة إلى العمل، عندما تعود سلاسل الطاردات المركزية إلى دورتها الأولى، بعدما أحالها الاتفاق إلى تقاعد مؤقت.
ويضيف الخبير العربي أن العسكريين، إذ يتشددون في إضافة التعديلات، يعتقدون أن الخيار العسكري المتمثل في ضرب المنشآت النووية الإيرانية ليس خياراً ممكناً ولا مثمراً، فضلاً عن كونه بعيد المنال، لأنه يتطلب النزول على الأرض، وإرسال قوات برية، وشن حرب مباشرة لتدميرها. فلا الهجمات الجوية، ولا الصواريخ الأميركية المضادة للتحصينات قادرة على الوصول إليها في حصونها الجبلية العميقة.
ولا يبدو الربط بين التعديل أو الانسحاب وبين اشتراط وضع «الباليستي» على طاولة المفاوضات مندرجاً ضمن أي نص في الاتفاق نفسه، إذ لم يأت اتفاق فيينا على البرنامح الباليستي، إلا من جانب منع تطوير الحامل منه للرؤوس النووية. ولا توجد براهين على تطوير إيران صواريخ جوالة قادرة على حمل رؤوس نووية. وعلى الرغم من أن المخابرات الأميركية كانت قد تحدثت عن صواريخ إيرانية جوالة من طراز «SSN22» و«115A» و«KH55» في طور البناء، قادرة على حمل قنبلة نووية متوسطة، إلا أن تقارير وكالة الطاقة النووية لا تزال تنفي منذ عقد كامل وجود أي برنامج عسكري يتصل بها.

ربط «الباليستي» بالدور الإقليمي سيقيّد قدرة إيران على التحرك


لكن طرح الباليستي الإيراني كشرط في المقايضة التي تحاول واشنطن، وباريس أيضاً، إجراءها، يثير بحدّ ذاته هواجس أميركية وغربية وإيرانية وخليجية مستقلة عن البرنامج النووي. منذ الحرب مع العراق، استثمرت إيران في استراتيجية دفاعية لتغطية ميادين التهديد التي تحيط بالهضبة الإيرانية، من الخليج حتى آسيا الوسطى وقسم من أوروبا. وخلال ثلاثة عقود، استطاع برنامج إعادة الهندسة الإيراني نسخ جزء كبير من التقنيات الكورية والروسية والصينية بشكل معلن، لمراكمة ترسانة دفاعية من صواريخ مدفعية قصيرة المدى، ومتوسطة المدى مثل «فجر» و«فاتح» و«زلزال» و«قيام» و«شهاب» واحد واثنين، وأخرى بعيدة المدى تشمل «شهاب» أربعة وخمسة وستة، التي يصل مداها إلى عشرة آلاف كيلومتر، وتغطي أوروبا وجزءاً من سواحل أميركا.
يبدو أن السعي إلى ربط «الباليستي» بالاتفاق النووي لا يستهدف سوى تحجيم قدرة طهران الدفاعية. وعلى الرغم من معارضة الاتحاد الأوروبي المطالب الأميركية تعديلاً للاتفاق أو انسحاباً منه، إلا أن أوروبا لا تعارض وضع «الباليستي» على طاولة المفاوضات، بل وتطالب طهران بتقديم تنازلات في هذا الملف، للتمايز عن الولايات المتحدة شكلاً، بسبب المصالح الأوروبية المستجدة في الأسواق والصفقات مع إيران. لكن هذا الموقف يتقاطع مع الأهداف الأميركية والإسرائيلية لتحجيم الصعود الإقليمي لإيران، ولا يبتعد عن المواقف الأوروبية خلال مفاوضات الستة + واحد. وقد باءت آخر محاولة فرنسية لإقناع طهران بذلك بالفشل، بعد زيارة وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لودريان، وتمسك الرئيس حسن روحاني بالبرنامج الصاروخي، الذي «سنواصل تطويره إلى جانب تطوير أسلحتنا البرية والجوية» كما قال.
يدرك الإيرانيون أن الانزلاق إلى ربط «الباليستي» بالدور الإقليمي سيقيّد قدرتهم على التحرك في الإقليم أولاً، في وقت تشتد فيه المواجهة مع الولايات المتحدة في سوريا والعراق واليمن. كذلك، فإن مجرد القبول بذلك الربط لا يعني أن المقايضة ستنجح، خصوصاً أنه لا يمكن الركون إلى تعهدات الإدارة الأميركية، التي تعمل على إفراغ الاتفاق من محتواه بمواصلة احتواء إيران، وعرقلة الاستثمارات الأجنبية والأوروبية، على الرغم من تجميد العقوبات بموجب الاتفاق. وعليه، ستصبح إيران رهينة تنازلات لن تنتهي لائحتها، بمجرد التراجع ولو نصف خطوة أمام الأميركيين.