طهران | في تشرين الأول عام 2003، كانت آخر زيارة لوزير خارجية فرنسي لإيران. دومينيك دو فيليبان حضر ضمن وفد وزراء خارجية الترويكا الأوروبية التي أعلنت أول اتفاقية نووية مع إيران عُرفت بإعلان «سعد آباد»، بحضور أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، حينها، حسن روحاني. اليوم، بعد مضيّ 12 عاماً على الزيارة، عاد وزير الخارجية لوران فابيوس إلى إيران ليسلّم الرئيس روحاني دعوة من الرئيس فرانسوا هولاند لزيارة فرنسا، في تشرين الثاني المقبل. مفارقات كثيرة حملتها الزيارة، فـ«العدو اللدود» على طاولة المفاوضات النووية حضر، هذه المرة، على مائدة الرئيس ليقرأ كتاب الغفران بهدف تحقيق أحلام العودة إلى بازار الصناعة في إيران.
وصل فابيوس إلى وزارة الخارجية الإيرانية بثقة عالية، ليسجل اسمه ضمن لائحة أوائل الفاتحين للاقتصاد الإيراني، بعد الصراع النووي. ووعد بحضور وفد تجاري رفيع المستوى، نهاية العام الحالي، لتسلّم جائزة «الليونة» الفرنسية التي أبداها بحسب اعتقاده في الملف النووي.
الكعكة الإيرانية أغرت سكان الإليزيه، خصوصاً أن زيارة طهران سياسياً لم تخرج عن إطار المجاملات الدبلوماسية، وحفلت بعبارات التعاون الإقليمي وإرساء الأمن والاستقرار وتوحيد الجهود لمكافحة التطرف والإرهاب. أما في طيّات الزيارة، فقد فاحت رائحة محرّكات سيارات «بيجو» و«رينو» وضجيج محركات طائرات «ميراج» و«إيرباص»، وعشرات العقود الصناعية التي ستسمح، في حال تحقّقها، في أن تجعل فرنسا من أهم الشركاء التجاريين لإيران.
وإذا اتخذت لقاءات فابيوس، في مجملها، طابعاً بروتوكولياً، فلأنها تأتي في مرحلة مصارحة وجس نبض، ذلك أن طهران لا يمكن لها أن تنسى الضرر الكبير الذي لحق بقطاع صناعة السيارات، بفعل انسحاب الشركات الفرنسية بحجة العقوبات الدولية أو الأوروبية. لذا، يدور الحديث، حالياً، عن استثمارات بمليارات الدولارات تسعى باريس إلى إعادة إحيائها، عبر إقناع الإيرانيين بمقولة «عفا الله عمّا مضى»، وهو ما عبّر عنه فابيوس بالإشارة إلى فتح صفحة جديدة بعد الاتفاق النووي.
وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بادل ضيفه المجاملات الدبلوماسية، وتحدث عن ضرورة التزام الجميع بما تعهّدوا به في إعلان فيينا، كذلك شاطره فكرة ضرورة التعاون لمكافحة الإرهاب والتطرف.
ظريف الذي خَبِر نظيره الفرنسي، كان يبتسم حين وقع فابيوس في فخ «العنجهية» الفرنسية، ذلك أنه خلال المؤتمر الصحافي، كال فابيوس المديح لتاريخ إيران وحضارتها، داعياً إلى فتح أبواب السياحة للفرنسيين لينهلوا من فيض الآثار الإيرانية العريقة، معتبراً أن الشعب الإيراني تأثر بأفكار الثورة الفرنسية، حين ثار مطالباً بالحرية والاستقلال.
هي صفحة جديدة من العلاقات مع فرنسا التي زارها الرئيس محمد خاتمي في عهد الرئيس الأسبق جاك شيراك، قبل الدخول في أتون الأزمة النووية.
الاستعجال الأوروبي للوصول إلى طهران، في موازاة الحديث عن استثمارات بمليارات الدولارات، يريد أولاً حفظ الحصص الغربية في الأسواق الإيرانية وحجز مقعد في قطار الاقتصاد الإيراني الذي سينطلق، وثانياً يحاول الضغط على طهران عبر فتح عينيها على مليارات الدولارات التي قد تطير بلمح البصر، في حال عدم توقيع الاتفاق أو عرقلته.
هذا الأمر قد يشكل عامل ضغط إضافي أمام خيار الانفتاح على العالم اقتصادياً أو العودة إلى ظل العقوبات. قرارات صعبة للساسة في إيران الذين يدرسون الاتفاق النووي بكافة تفاصيله، وعيونهم على «خطوط حمراء» وضعتها القيادة، قد يكون السير على حافتها الآن أمراً عادياً، ولكن تداعياتها، مستقبلاً، قد تؤدي إلى قلب الكثير من المعادلات داخلياً، وعلى صعيد الاتفاق النووي.
في هذا الإطار، قال روحاني خلال مباحثاته مع فابيوس إن «الحكومة الإيرانية جادة في الوفاء بتعهداتها ما التزم الطرف الآخر بتعهداته»، معتبراً الاتفاق النووي خطوة مهمة لتحويل التهديدات إلى فرص.
وإذ شدد روحاني على مواصلة إيران وفرنسا مساعيهما «لكي يبقى الاتفاق النووي قائماً»، فقد لفت إلى أن الاتفاق النووي من شأنه أن يكون أرضية صلبة للوصول إلى اتفاقيات ثنائية أخرى في مجال تعاون إيران والاتحاد الأوروبي في شتى المجالات.
فابيوس أشار، في مؤتمر صحافي مع نظيره الإيراني محمد جواد ظريف، قبيل اجتماعه مع روحاني، إلى أن «هذا ليس مجرد اتفاق فني يقول، على سبيل المثال، نعم للاستخدام السلمي ولا للاستخدام العسكري، بل اتفاق يحقّق السلام والاستقرار في العالم». ورداً على سؤال عن كيفية سعيه إلى تغيير أسلوب تفكير الإيرانيين تجاه موقف فرنسا المتشدّد، أثناء المفاوضات النووية، قال إن «على الجميع تبنّي الاتفاق حتى يكون بنّاءً»، مضيفاً أن «الأسلوب الذي ستتبعه فرنسا هو الحصول على اتفاق قوي لا شك فيه».
وأضاف: «نحن دولتان كبيرتان مستقلتان، وفرنسا تحترم إيران وثقافتها ودورها في التاريخ... ومعاناتها، وأقصد هنا المعاناة خلال الحرب بين إيران والعراق»، موضحاً أنه «مع هذا الوضع الجديد ــ رفع العقوبات ــ تنوي فرنسا إذا رغبت إيران في ذلك، أن تعزز وجودها في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية».
وفي منطقة تشهد أزمات ونزاعات خطيرة، أشار وزير الخارجية الفرنسي إلى أن إيران «قوة نافذة» تشاطر فرنسا «الحرص نفسه على السلام والاستقرار»، رغم «الاختلافات».
من جهته، أكد ظريف انطلاق «حوار سياسي على المستوى الوزاري» بين البلدين، مشيراً إلى أنه، بعد الاتفاق النووي في فيينا، ستفتح باريس وطهران «فصلاً جديداً في مسار المصالح المشتركة». وأوضح أن المحادثات السياسية، التي كانت مقتصرة على القضية النووية، ستتوسع لتشمل قضايا مكافحة التطرف والإرهاب والتعاون في مجال البيئة، وكذلك في المجال النووي.
بعد الظهر، التقى فابيوس وزير النفط الإيراني بيجان نمدار زنقانه، الذي أشار إلى أن «شركة توتال كانت موجودة لمدة عشرين عاماً في المشاريع النفطية»، مضيفاً أنه «سيتم فتح فصل جديد لأنشطة هذه الشركة في تطوير الحقول النفطية»، وموضحاً أن الشركات الفرنسية تشارك، أيضاً، في مشاريع بتروكيمائية. في هذه الأثناء، كان وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر يندّد بـ«الانشطة المؤذية» لإيران في الشرق الأوسط، في محاولة لاسترضاء أعضاء الكونغرس المعارضين للاتفاق النووي.
وقال كارتر أمام لجنة الدفاع في مجلس الشيوخ، برئاسة السيناتور جون ماكين: «سنواصل الوقوف إلى جانب الأصدقاء... بمواجهة نشاط إيران المؤذي»، كما سبق أن أعلن خلال زيارته، الأسبوع الماضي، للأراضي المحتلة والسعودية.
وأضاف: «سنحتفظ بموقف عسكري قوي لمنع أي عدوان، وتعزيز أمن أصدقائنا وحلفائنا في المنطقة، وخصوصاً إسرائيل، لضمان حرية الملاحة في الخليج ومراقبة نفوذ إيران المؤذي». كذلك ندّد بالدعم العسكري الإيراني للنظام السوري وحزب الله.