شُغل العالم لأسابيع بمصير اليونان في منطقة اليورو، وفي ما إذا كانت ستتمكّن من سداد ديونها إلى الثلاثي المقرض (المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي) أو لا، في وقتٍ وقف فيه اليونانيون صفوفاً أمام الصرافات الآلية لأخذ القليل من الأموال، ورفضوا، بوضوح وديمقراطية، إجراءات التقشف الأوروبية التي عادت وفُرضت عليهم عنوة.
تسارعت الأحداث حتى وصلت إلى حسم شبه نهائي لمصير اليونان في منطقة اليورو، وعادت أثينا ورضخت لإجراءات تقشّف أكثر صرامةً من تلك التي رفضها الشعب اليوناني. عادت المصارف اليونانيّة لتقديم خدماتٍ مقيّدة إلى المواطنين، ونفّذت أثينا شروط الدائنين القاسية، حيث تمّ رفع ضريبة القيمة المضافة إلى 23%، وتقليص نفقات نظام التقاعد، وإجراء عمليات خصخصة واسعة كانت الحكومة تعارضها في السابق، وذلك لمقابلٍ بسيط، هو قبول الدائنين بدء التفاوض حول برنامج قروض جديد بقيمة 86 مليار يورو لمدّة ثلاث سنوات. صوّت البرلمان اليوناني لصالح هذه الإجراءات في شقّيها الأوّل والثاني، فيما يُنتظر حسم المفاوضات بشأن صفقة الإنقاذ الثالثة في الأيّام المقبلة، وتبدي الحكومة اليونانية رغبتها في إغلاق هذا الملف في منتصف آب المقبل.

الأملُ في الصديقة روسيا

وفي ظلّ هذه الفوضى، كان لليونان بصيص أمل، هو البلد الذي يجمعها به رابط الكنيسة الأرثوذكسية: روسيا. رأى معظم المحللين أنّ اليونان تتصرّف على أساس وجود سندٍ سيدعم خروجها من منطقة اليورو، إذا ما فرضت الأحداث هذا التوجه. ليلة رفض اليونانيون إصلاحات الثلاثي الدائن في الخامس من تموز، سارع رئيس الوزراء اليوناني، أليكسيس تسيبيراس، إلى الاتصال بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي اكتفى بالتعبير عن دعمٍ معنويٍّ للشعب اليوناني، في حين أراد تسيبيراس مليار يورو، كدفعة مسبقة عن مشاريع استثمارية وعدت بها روسيا، وهو مبلغ زهيد إذا ما قورن بديون اليونان المتراكمة وحاجتها الفعليّة. لكنّ بوتين أحجم عن المساعدة، بحسب ما يذكر الباحث في معهد «كارنيغي» في موسكو، ألكسندر بونوف، في مقاله «لماذا عارضت موسكو خروج اليونان من منطقة اليورو؟».
لم يأتِ الأمل اليونانيّ دون معطيات فعليّة، إذ إنّ أثينا كانت تعوّل بجديّة على موسكو، وأعدّت نفسها في غير مناسبة لتوضح للأصدقاء الروس هذه الرغبة. تملك اليونان العناصر الكافية لتحظى بالدعم الروسي: هي بلدٌ عضو في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وتعارض العقوبات الأوروبية المفروضة على روسيا على إثر الأزمة الأوكرانية، وهي في صراع مع الأوروبيين، تماماً مثل روسيا. كذلك، تشكّل اليونان الممرّ المنتظر لمشروع خطّ أنابيب «السيل التركي»، وهو الخيط الأوّل في التقرّب اليوناني من روسيا، بعد وصول حزب «سيريزا» اليساري إلى السلطة. وفضلاً عن عائداته المالية غير البسيطة على اليونان، أثار المشروع «الهلع» في حلف الأطلسي والغرب عامة، وظهر، لوهلةٍ، أنّ التقارب الروسي ــ اليوناني نهائيّ، لن يزعزعه أحد.
وفي هذا السياق، أشار تقرير نقلته وكالة «غريك ريبورتر» اليونانية إلى أنّ تسيبيراس كان يأمل بتمويلٍ روسي قدره 10 مليارات دولار، يوفّر لليونان إمكانيّة أن تطبع عملتها الخاصة، الدراخما. غير أن الردّ الروسي جاء بارداً، إذ عرض الروس مبلغ 5 مليارات دولار كدفعةٍ مسبقة لليونان عن مشروع أنابيب خطّ الغاز الطبيعي الآنف الذكر، بحسب ما نقلت الوكالة عن صحيفة «تو فيما». لكنّ المتحدّث باسم الكرملن، ديميتري بيسكوف، نفى هذا التقرير، مؤكداً أنّ تسيبيراس لم يطلب مساعدات مالية من روسيا. ومع ذلك، لا يمكن تجاهل هذه المعلومات بشكل كامل، والتي تشير إلى أنّ موسكو اكتفت بمساندة معنويّة لليونان، وتردّدت في القيام بخطوة جدّية تجاه البلد الغارق في ديونه.
لم يأتِ اتصال تسيبيراس ببوتين، في الليلة التي كادت تحسم مصير اليونان (ليلة الاستفتاء) من عبث إذاً، فهو أراد أن يثبت للأوروبيين أنّ طريق اليونان ليس مسدوداً، وأنّ هناك صديقاً خلف البحار سيقدّم لبلاده الدعم. ففي منتصف حزيران الفائت، أخذ تسيبيراس استراحة من مفاوضاته الشاقة مع بروكسل ليطير إلى المنتدى الاقتصادي الدولي في مدينة سانت بطرسبورغ الروسية، ولكنّه عاد خالي الوفاض، من دون أي وعدٍ بمساعدات ماليّة من روسيا.
حتّى في قمّة دول مجموعة «بريكس» ومنظمّة شانغهاي للتعاون في مدينة أوفا الروسية، في الفترة الممتدّة ما بين 8 و10 تمّوز الماضي، لم تَرِد اليونان على جدول أعمال القمّة كبندٍ أساسيّ، وهذا ما أكّده يومها بيسكوف، الذي أفاد بأنّ روسيا تتمنّى لشركائها اليونانيين «التوصل في أسرع وقت ممكن لحل وسط ضروري مع الدائنين، واتخاذ القرارات التي ستساهم بأحسن حال في الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي لهذا البلد». وأضاف بيسكوف أنه إذا كانت اليونان بحاجة إلى مساعدة مالية، فعليها أن تطلبها بنفسها. جاء هذا مع دعوةٍ روسية خجولة بانضمام اليونان إلى مجموعة «بريكس» في أيّار، واحتمال تقديم مساعدة عبر بنك التنمية الجديد، الذي افتُتح الأسبوع الماضي. فلماذا يبدو كأنّ موسكو تراجعت أو أحجمت عن استغلال فرصة مساعدة اليونان؟ أو هل هي تتريّث فقط بانتظار حدث جديد؟

موسكو تلعب بحذر

في تبسيطٍ للأمور، كان السيناريو المتوقع كالآتي: إذا رفض اليونانيون إجراءات التقشف، فستخرج اليونان من منطقة اليورو، وستستدير مباشرةً إلى الصديقة روسيا. لكنّ ذلك لم يحصل. يبدو انتشال اليونان من مستنقعها وسحبها من «معسكر» الغرب أمراً مغرياً بالنسبة إلى بلدٍ مثل روسيا، من منظور سياسي ــ استراتيجي.

روسيا لن تمنح اليونان قروضاً من دون التأكّد من أنّها ستحصد المقابل المعقول
إلّا أنّ الواقع الاقتصادي يعاكس هذا الخيار، ويجعل روسيا تتريّث قبل أن تزيد على كاهلها عبء بلدٍ مفلسٍ، وهي الواقعة بدورها في مشكلة اقتصاديّة تسبّبت فيها العقوبات الأوروبية وأسعار النفط المنخفضة، والمتجهة إلى مزيد من الانخفاض، بعد الاتفاق النووي الإيراني الذي يهدّد بتخمة المعروض في سوق النفط بعد رفع العقوبات عن طهران.
كذلك، يشير الباحث كريستوفر هارتويل، في مقال له على موقع «روسيا دايركت» بعنوان «روسيا غير قادرة على مساعدة اليونان في أزمتها المالية»، إلى أنّ «روسيا سبق أن وقعت بنفسها في مشاكل كافية في السنتين الأخيرتين، ما يجعلها متردّدة في إضافة مزيد من المآزق على عاتقها». ويلفت الباحث نفسه إلى قضيّة انضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا، والتي رتّبت أعباءً ماليّة عليها، وإلى سعي روسيا لتوسيع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ما قد يكبّد روسيا ديوناً إضافيّة، خاصةً مع ضمّ أرمينيا، البلد الضعيف اقتصادياً.
من هنا، يظهر أنّ الحسابات الروسية دقيقة، وأنّ روسيا لن تمنح اليونان قروضاً أو مساعدات من دون أن تتأكّد من أنّها، على المدى القصير أو المتوسط، ستحصد المقابل المعقول. ويبدو أنّ روسيا تفضّل أن تبقى اليونان في منطقة اليورو، وأن تدير تعاملها معها على هذا الأساس. ومع ذلك، فقد ورد على لسان بيسكوف، في سياق تعليقه على طلب اليونان مساعدات ماليّة من روسيا، أن الأخيرة «قادرة على تقديم الدعم المالي لشركائها، بغض النظر عن الصعوبات القائمة في الاقتصاد»، وذلك في إشارةٍ إلى أنّ بلاده قد تساعد اليونان، إذا ما بادر اليونانيون أنفسهم بالطلب.
يظهر إذاً أنّ روسيا تحتسب الخطوة القادمة بحذر، مع صمتٍ شبه كاملٍ عن التطوّرات الأخيرة في اليونان، والإبقاء على بصيص أمل صغير في المساعدة. الأكيد أنّ روسيا سعيدة بالاضطرابات التي تهدّد «مدينة الاتحاد الأوروبي الفاضلة»، ولكنّها، في الوقتِ الحاليّ، لم تجد التوقيت المثاليّ للتدخل بعد.