خلال العقد الثالث من القرن التاسع عشر – حين بدأ التسجيل الدقيق للبيانات – بلغ عدد الحاصلين على الإقامة الدائمة في الولايات المتّحدة 128501 شخصاً، أكثر من 77% منهم قدموا إلى «أرض الأحلام» من أوروبا، أما الطامحون إلى هذه الأرض انطلاقاً من آسيا، فكانوا 34 شخصاً فقط.
عندما نقدّم التاريخ قرنين تقريباً، تنقلب الحسابات كلياً. خلال عام 2012، مثّل الآسيويون أكثر من 40% من الحائزين صفة المقيم الدائم في الولايات المتّحدة، فيما سجّل عدد الأوروبيين تراجعاً بنحو عشرة آلاف، وانخفضت نسبتهم إلى 8.4% فقط. ففي هذا العام، سجلت السلطات الأميركية 1.031 مليون مقيم دائم جديد؛ 53% منهم كانوا موجودين فعلياً على الأراضي الأميركية وعدّلوا طبيعة إقامتهم هناك، أما النسبة الباقية فهي عبارة عن وافدين جدد إلى البلاد.
يُشار هنا إلى أنّ ثلثي هؤلاء المقيمين الجدد فازوا بهذا التصنيف انطلاقاً من صلات القربى التي تربطهم بمواطنين أميركيين أو بأشخاص يحملون الإقامة الدائمة على الأراضي الأميركية.
تُخبر هذه الإحصائيات الكثير عن الأحوال الديموغرافية لأميركا؛ تختصر رحلة هذا البلد من مغناطيس للإيرلنديين إلى قبلة المهندسين الصينيين والهنود. لكن مهما تبدلت المصادر، يبقَ المعطى الثابت: ما أكثر الحالمين بالبطاقة الخضراء (Green Card) التي تمنح حاملها صفة الإقامة الدائمة القانونية (LPR).
الطلب كبير من بعض المناطق، لدرجة أن وزارة الخارجية الأميركية تُنظّم سنوياً سحب حظّ تمنح بموجبه الإقامة لـ55 ألف طالب هجرة من بلدان لا تتسم بمعدلات هجرة عالية إلى أميركا؛ يُسمّى البرنامج «تأشيرة تنويع المهاجرين».
يُمكن حامل هذه البطاقة العمل أينما كان في الولايات الخمسين، تملك الأراضي، ويحق له أيضاً الاستفادة من الخدمات الأساسية، وعلى رأسها التعليم. وإذا احترم شروطاً معيّنة يُمكنه الحصول على الجنسية الأميركية، وبالتالي على جواز السفر الشهير ليتحول مواطناً كاملاً له حق الاقتراع.
جميع قوانين الهجرة إلى الولايات المتّحدة والاستقرار فيها يحكمها قانون الهجرة والجنسية (INA). الأولوية، وفقاً لهذه النصوص التشريعية، هي لطالبي الهجرة ممن لديهم صلات قربى مع أميركيين أو مقيمين شرعيين في الولايات المتحدة، لأصحاب مهارات العمل المطلوبة ولطالبي اللجوء.
لكن في ظلّ التغيرات التي يشهدها المجتمع الأميركي والمعدلات المرتفعة للمهاجرين غير الشرعيين، تريد إدارة الرئيس أوباما تنفيذ إصلاح شامل للنظام المعتمد.
إنه فعلياً «الإنجاز الأكبر الذي أريد تحقيقه هذا العام (2014)». كانت عبارة الرئيس الديموقراطي واضحة خلال مؤتمر صحافي عقده في 21 كانون الأول الماضي. يستند في تفاؤله إلى معطيات إيجابية من مجلس النواب، يبدو أنها قد تؤسس لإقرار الإصلاح الشامل؛ خطوة لتوصف بأنها «تاريخية» لهذا البلد الذي يُعدّ الأشهر في مجالات الهجرة.
«لنرَ ما إذا كان بمقدورنا أن ننجح سياسياً في هذا المجال (أي قانون الهجرة)»، أوضح الرئيس، وذلك بعدما عانت الإدارة ولا تزال الأمرين من الانقسام السياسي الحاد بين الديموقراطيين والجمهوريين وقيام حزب الفيل بعرقلة مشاريع الرئيس الديموقراطية، عبر سيطرته على مجلس النواب.
وكان مجلس الشيوخ قد توصل إلى صيغة لإعادة خطّ قوانين الهجرة تُعد الأولى من نوعها على فترة جيل كامل. يُخصص المشروع 46 مليار دولار لتعزيز الإجراءات الأمنية عند الحدود – وتحديداً مع المكسيك – وإجراء عملية تجديد كاملة لنظام تأشيرات السفر الذي تعتمده البلاد (Visa System) بهدف تسهيل دخول العمالة الماهرة تكنولوجياً وحتى تلك ذات المهارة المنخفضة.
الهجرة، بمعنى الانتقال من رقعة جغرافية إلى أخرى بهدف تحسين مستويات العيش بالدرجة الأولى، هي حركة كونية سبقت بقرون العولمة الاقتصادية الحديثة التي بدأ العالم يعيشها في النصف الأول من القرن العشرين. في الحقيقة يرصد الخبراء أنماط هجرة منذ آلاف السنين، حيث تسعى التجمعات البشرية دوماً إلى العيش الرغيد، اللجوء أو حتّى المناخ المناسب. وتُعدّ الولايات المتّحدة أبرز البلدان التي استهدفتها موجات الهجرة عبر العقود.
وتُفيد تقديرات مركز دراسات الهجرة في الولايات المتحدة بأن عدد المهاجرين الذين يقطنون في الولايات المتّحدة يبلغ 40 مليون شخص، ولدى إضافة أبنائهم الذين وُلدوا في الولايات المتّحدة يُصبح الرقم 50 مليوناً. يترقب جميع هؤلاء إقرار مشروع الحزب الديموقراطي في مجلس النواب ذي الغالبية الجمهورية. الكرة هي إذاً في ملعب زعيم تلك الغالبية، جون باينر، والأخير أطلق أكثر من إشارة على إمكان تبنّي المشروع الجديد، لكن تدريجاً.
الانتقادات الموجهة إلى المشروع تنطلق من غير حجّة، منها أنه لا يُمكن العمل على زيادة هجرة العمالة غير الماهرة في وقت لا يزال فيه معدل البطالة فوق 7%. ومنها أيضاً أن الأموال المرصودة لزيادة الإجراءات الأمنية عند الحدود، تُعد غير كافية.
لكن أهمّ الانتقادات تنطلق من فكرة أنه لا يُمكن المشروع أن يتضمّن خطّة لمنح الجنسيّة لأكثر من 11 مليون مهاجر وصلوا إلى البلاد قبل عام 2012. يمين الحزب الجمهوري يُشدّد على هذه النقطة، فيما يرى الديموقراطيون أن الإصلاح الحقيقي لنظام الهجرة لا يُمكن أن يحصل من دون إجراء كهذا.
صحيح أن رفض الجمهوريين القانون الجديد قد يبدو بديهياً، إلا أن ذلك لا يعني أن إدارة أوباما تُعدّ حتى الآن متساهلة مع المهاجرين غير الشرعيين. أخيراً، أعلنت السلطات أن عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين رُحِّلوا منذ تسلّم أوباما البيت الأبيض في بداية عام 2009، فاق 1.9 مليون نسمة، وهو مستوى قياسي مقارنة مع باقي الرؤساء.
تُبرّر الإدارة إجراءاتها بأن 98% من المرحّلين في عام 2013 مثلاً، كانوا من أصحاب التاريخ الجرمي أو أصحاب الجنح الخطيرة، غير أن إجراءاتها تؤدي في عديد من الأحيان إلى تشرذم اجتماعي وإلى إنهاك عائلات كثيرة تخسر قوتها المنتجة.
وقد لا يكون للجمهوريين خيارات كثيرة في هذا المجال، نظراً إلى تدهور شعبيتهم بعد فضيحة تعطيل الحكومة عبر قطع التمويل عنها في الخريف الماضي، وخفض نسبة تأييدهم إلى مستويات قياسية. لذا، يفرض عليهم الاستعداد للانتخابات الرئاسية عام 2016، خطوات تُعيد لهم بعض الاعتبارات السياسية.
حتى اليوم يخسر الجمهوريون الرهان في أوساط المهاجرين. وهو رهان يجب ألا يتجاهلوه.
وفيما تسعى الإدارة الأميركية إلى تعزيز قوانينها الخاصة بالهجرة، تُطرح أسئلة كثيرة عن مدى الرغبة بالهجرة إلى بلد يحوي 25% من سجناء العالم. أبرز التساؤلات هي: هل لا تزال الولايات المتّحدة أرض الأحلام؟ بمعنى آخر، هل لا تزال بلد الازدهار والنمو من رحم الحرية الفردية والمبادرة؟
منذ عام تحديداً، نشر أستاذ القانون المتخصص بالمصلحة العامة في جامعة جورج واشنطن، جوناثان تورلي، مقالاً غنياً يُفنّد فيه الأسباب التي توصل إلى استنتاج أن «الولايات المتّحدة لم تعد أرض الأحرار».
يقول الاستاذ الجامعي في مقاله الذي نشرته صحيفة «واشنطن بوست» إنّ هناك عشرة أسباب تجعل الولايات المتّحدة دولة أمنية لا تختلف كثيراً عن الديكتاتوريات التي تنتقدها؛ مع العلم أن العديد من المهاجرين واللاجئين إلى حضن أميركا يهربون من تلك الديكتاتوريات نفسها.
من أبرز الأسباب، «السماح بقتل مواطنين أميركيين إذا اتضحت علاقتهم بالإرهاب أو صُنّفوا أعداء للدولة»؛ «تطبيق العدالة اعتباطياً، حيث يُقرر الرئيس ما إذا كان المتهم سيحصل على محكمة مدنية أو عسكرية»؛ «عمليات التفتيش من دون مذكّرات قانونية»؛ «الإثباتات السرية التي تُستخدم لاعتقال أشخاص مدنياً أو عسكرياً»؛ «المحاكم السرية في الخارج» و«عمليات الإبعاد غير العادية» (Extraordinary Rendition) التي يُسلّم بموجبها أشخاص إلى بلدان أخرى.
تلك الممارسات تُعد محورية في باقة الاتهامات التي توجهها الولايات المتّحدة إلى بلدان مثل كوريا الشمالية، سوريا، الصين، إيران، باكستان وصولاً إلى السعودية في بعض الأحيان.
لكن ألم تكن الدولة الأمنية الأميركية التي تُضحّي بحقوق الإنسان لمصلحة «الأمن القومي» موجودة دائماً على مساحة ما يُعرف بالولايات المتحدة؟ في الماضي القريب كانت حقبة السيناتور جوزف ماكارثي التي لوحق خلالها – وبعدها بأساليب مختلفة – كل من يُشتبه في أن له بعض الميول اليسارية، واليوم هناك حقبة ما بعد 11 أيلول 2001؛ منذ ذلك التاريخ ارتفع عدد السجناء في السجون الفدرالية بنسبة 40%!
رغم كل ذلك، يبدو أنّ الولايات المتّحدة ستبقى أرضاً جاذبة للكثيرين. يختلف مستوى الجذب وفقاً لكلّ موسم، وما يهم واشنطن اليوم هو أن تكون عدّتها حاضرة لجميع تلك المواسم.




دفق متصاعد منذ 1945

تُلاحظ إدارة الأمن القومي الأميركي في تقريرها عن أحوال الهجرة إلى البلاد لعام 2012، أنّ تدفّق المهاجرين إلى الولايات المتّحدة سجّل نمطاً متصاعداً منذ عام 1945. فقد ارتفع الدفق السنوي من 250 ألفاً خلال الخمسينيات إلى أكثر من مليون بين مطلع الألفية الجديدة وعام 2012. وخلال فترات مختلفة عدلت السلطات القوانين – تماماً مثلما ينوي باراك أوباما فعله عام 2014 – لتسوية أوضاع المهاجرين. مثلاً، يعود الارتفاع الكبير في أعداد المقيمين الجدد مع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات إلى تشريع إقامة 2.7 مليون مهاجر غير شرعي وفقاً لقانون إصلاحي صادر عام 1986. ومن غير المعروف حتى الآن كيف سيكون للقانون الذي يُعَدّ له انعكاسات على طلبات الهجرة الجديدة.