لم تكن سرعة الوصول إلى حل في أوكرانيا بالأمر الصعب، على عكس ما أوحت به الأيام الأخيرة من مشاهد دمار وتخريب، وتحديداً في العاصمة كييف، وإظهار الأمر كأن البلاد قد دخلت فعلاً في حرب أهلية. التطور الدراماتيكي للأمور منذ صباح الاثنين بعد إشاعة أجواء تفاؤلية بقرب حل الأزمة مع إقرار القضاء أمر الإفراج عن المتظاهرين مع إخلاء البعض منهم لمبنى بلدية كييف، أوضح المشهد ببساطة: «أميركا تريد رأس بوتين في كييف».
وعلى عكس ما أشاعته وسائل الإعلام الأجنبية، فإن المتظاهرين، وهم من مجموعة VOV المعروفة ببطشها وفوضويتها، هم من بدأوا بلعبة الدم، فأغلب الإصابات كانت من عناصر الشرطة (وحدات الخاصة AMON أغلب عناصرها احترقوا بقنابل المولوتوف)، فيما لم يبادروا إلى الرد بالمثل، على ما أفادت مصادر متابعة. كذلك تحدثت تقارير صحافية عن وجود قناصين على أسطح المباني، بالإضافة إلى هجوم بعض المتظاهرين على ثُكَن للجيش. وعمد المتظاهرون إلى التخريب وتدمير البنى التحتية والسيطرة على الأماكن العامة، بحسب المتابعين أنفسهم.
كذلك سربت أخبار، بثتها محطات تلفزة روسية، عن مشاركة ضباط إسرائيليين من «الموساد» في إدارة الوضع على الأرض بالمشاركة مع مجموعات من C I A، بالإضافة إلى مجموعات من مرتزقة «جيش لحد» وإسرائيليين يتحدثون الروسية في توتير الأجواء.
الأحداث وتسارعها أعطت الانطباع الصحيح بأن المخطط جاهز منذ مدة، لكن قرار إشعال البلاد في هذا التوقيت كان، على ما ظهر، بسبب انشغال روسيا في أولمبياد سوتشي، وهو ما دفع واشنطن تحديداً إلى استغلال الوقت لإمرار طلباتها.
جاء اتفاق «الممكن»، وهو التعبير الأدق للاتفاق الذي توصل إليه الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش مع وزعماء المعارضة أرسيني ياتسينيوك وفيتالي كليتشكو وأوليغ تياغنيبوك، لتسوية الأزمة بهدف إحباط المخطط الأميركي.
الاتفاق نص على عودة أوكرانيا إلى دستور 2004، الذي ينص على إقامة نظام برلماني رئاسي وتقييد صلاحيات الرئيس، بالإضافة إلى نية الأطراف الموقعة تشكيل حكومة وحدة وطنية خلال 10 أيام وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة بعد إقرار دستور جديد للبلاد، وذلك قبل كانون الأول 2014. كذلك يقضي الاتفاق بتغيير قانون الانتخابات وإعادة تشكيل لجنة الانتخابات المركزية على أساس القوائم وفقاً لقواعد منظمة الأمن والتعاون في أوروبا ولجنة البندقية. وتعهدت الحكومة الأوكرانية عدم إعلان حالة الطوارئ في البلاد.
«التدقيق في الاتفاق يظهر بوضوح الانتصار الروسي في السياسة، والرضى الأوروبي في المشاركة والفشل الأميركي في تكبيل الروس في عقر دارهم»، بحسب المصادر الخبيرة في الشأن الأوكراني.
فمنذ بداية الأزمة، عمل الروس على إظهار الأمر على أنه شأن أوكراني داخلي، لذلك راهنت موسكو على الرئيس فيكتور يانوكوفيتش في إيجاد حلول للأزمة، في ظل انشغالها في ملفات سوريا تحديداً وإمرار أولمبياد سوتشي، وخاصة بعد انفجارات فولفوغراد.
رهان روسيا على يانوكوفيتش لم يأت كما أملت الإدارة الروسية. فعلى رغم تضحية موسكو برجلها الأهم في أوكرانيا رئيس الوزراء ميكولا أزاروف وإعطاء المعارضة فرصة المشاركة في الحكم عبر إعطائها رئاسة الوزراء، إلا أن تلك المعارضة أبت التنازل عن شروطها في تغيير شكل الحكم في البلاد.
عرفت روسيا منذ البداية أن أميركا تريد أن تكون أوكرانيا مفتاحها للضغط عليها لتقديم تنازلات، فيما كان واضحاً لها أن أوروبا لا يمكنها أن تقدم دعم مادي واقتصادي لكييف، لذلك بادرت سريعاً إلى تقديم سندات خزينة بقيمة 15 مليار دولار لدعم أوكرانيا.
ومنذ البداية، أوضحت موسكو أن «الحل لا يكون إلا بالسياسة»، ولكنها تركت الباب مشرعاً أمام تدخلها إن أرادت واشنطن الذهاب بعيداً في «لعبة الدم». ولا يخفى سر، أن بوتين أبلغ أزاروف في بداية الأزمة أنه «إذا كان لا بد، فإن وحدات المظليين الروس جاهزة للتدخل».
في مقابل الوضوح الروسي، لم تكن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في قدرة على بلورة قوة يمكنها مواجهة موسكو. فالاتحاد الأوروبي لا يملك الإمكانات المالية لمساعدة كييف، وهو ما أعلنته صراحة منسقة السياسة الخارجية في الاتحاد كاثرين آشتون، التي اكتفت فقط بإعطاء الوعود، فيما «لعبت واشنطن على إغراق أوروبا في مستنقع أوكرانيا لإبعاد خطر اليورو عن الدولار من دون تقديم دعم مباشر».
وعلى عكس واشنطن الراغبة في مقارعة الروس على بعد ساعة ونصف من موسكو بالطائرة، كان الاتحاد الأوروبي ــ وعلى رأسه ألمانيا ــ يميل أكثر إلى عدم استفزاز موسكو وإيجاد الخلافات بين الطرفين، لذلك بدا واضحاً التعامل الهادئ للمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل.
ألمانيا تحديداً تعرف أن المعارضة الأوكرانية ليست بالتنظيم القادر على تغيير موقع روسيا القوي في البلاد، بالإضافة إلى معرفتها بفساد هذه المعارضة بعد تجربة ثورة «البرتقاليين» في 2004، وهو المتغلغل أيضاً في أجهزة الدولة.
كذلك أدركت الأطراف الدولية أن موسكو لا يمكن أن توافق على اندلاع حرب أهلية تدفع نحو «الحلم التاريخي» بتقسيم أوكرانيا، وهو ما يجعل حلف شمالي الأطلسي على حدودها.
الانقسام بين الروس والأوروبيين والأميركيين وضع أوكرانيا أمام 3 خيارات:
- إما حرب أهلية يدفع ثمنها VOV.
- تقسيم أوكرانيا، وهو الأمر الذي ليس في مصلحة أي طرف.
- الاتفاق تحت الطاولة، وهو ما جرى يوم أمس، وقد أسهم فيه تحديداً إعلان الجيش الأوكراني منذ البداية وقوفه على الحياد وعدم التدخل.
لماذا هذا الاتفاق يفيد كل الأطراف؟
على صعيد روسيا، تدرك موسكو أن أوكرانيا بوابتها على أوروبا لتصدير الغاز، ولذلك لا يمكنها أن ترضخ فيها لأن تقبل بتعريضها لمخاطر حرب أهلية تضعها في موقف صعب مع حلفائها في الاتحاد السوفياتي السابق، وهو ما يفتح الباب عليها لاندلاع أزمات في أماكن جديدة. وموقف الضعيف أمام الدول المتخاصمة معها في الاتحاد السابق وخاصة الدول الـ 5 الإسلامية.
أما الاتحاد الأوروبي فنجح في أن يفرض مشاركة المعارضة المحسوبة عليه في إدارة البلاد والمشاركة في عملية التغيير الاجتماعي.
وحدها واشنطن خرجت خالية الوفاض، فهي تدرك مسبقاً أن لا قوة لها على الأرض يمكنها أن تؤثر على روسيا بنحو يدفعها إلى أن تقدم تنازلات في سوريا تحديداً.
يبقى السؤال: كيف يمكن أن يدير الرئيس فيكتور يانوكوفيتش المرحلة المقبلة في ظل عدم رضى روسي عنه، وهو ما بدا جلياً مع رفض الرئيس فلاديمير بوتين التحدث إليه أربع مرات في اليومين الماضيين. فروسيا تعتبر يانوكوفيتش حصاناً خاسراً فهو أثبت بالتجربة ضعفه في إيجاد المخارج، بالإضافة إلى أنه «نصاب» و«فاسد»، في وقت لم ينس فيه الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بعد، انقلابه عليهما في أعقاب ثورة «البرتقاليين» في 2004 والعودة إلى الحضن الروسي.