أحداث حديقة النزهة (غيزي) في تقسيم، والعملية الأمنية التي ضربت وزراء ومسؤولين في الحكومة، والانقسام بين أنصار التيار الإسلامي في ضوء الصدام بين حزب العدالة والتنمية وجماعة الداعية صاحب النفوذ الواسع فتح الله غولن، كلها أمور تنظر إليها المعارضة كفرصة لإنهاء انتصارات حزب آردوغان المستمرة منذ اثني عشر عاماً، فيما يسعى حزب العدالة الحاكم إلى تجديد الثقة الشعبية والخروج من هذه الأزمات بنصر انتخابي مهم.
صراع المدن الكبرى

يسعى حزب المعارضة الرئيسي في تركيا (حزب الشعب الجمهوري) إلى تحقيق انتصار في انتخابات بلديتي إسطنبول وأنقرة، اللتين يقطنهما عشرون مليون مواطن من أصل ثلاثة وسبعين مليون مواطن في تركيا، مستغلاً اهتزاز شعبية الحزب الحاكم في هذه المدن، حيث قام حزب الشعب وبهدف الفوز برئاسة بلدية اسطنبول الكبرى باعادة استقطاب مصطفى ساري غول، إحدى ابرز الشخصيات السابقة، بعدما فصله من الحزب بحجة السعي إلى السيطرة على قيادته.
في اسطنبول، يراهن حزب الشعب بدرجة كبيرة على ساري غول، صاحب التجرية الكبيرة في العمل البلدي في مواجهة مرشّح حزب العدالة، قادر توب باش، المدفوع بانجازات حزبه في المدينة في السنوات العشر الأخيرة، وبالثقل الشخصي لرئيس الوزراء رجب طيب آردوغان، الذي ينظر إلى انتخابات بلدية اسطنبول على انها معركته الشخصية، حتى إن اوساط حزب الشعب الجمهوري ترى أن منافس ساري غول في الانتخابات ليس قادر توب باش، بل أروغان نفسه.
التقديرات المحايدة لانتخابات المدينة ترى أن حزب العدالة تأثر كثيراً بالأحداث السياسية الأخيرة من احتجاجات حديقة النزهة والعملية الأمنية ضد حالات الفساد والرشوة في الحكومة، وانتهاءً بصراع الحزب الحاكم مع جماعة الداعية غولن. إلا أن هذه التقديرات أيضاً ترى أن حزب آردوغان، وإن كان سيخسر نسبة من الأصوات في المدينة، الا أنه سينجح في الحفاظ على مفاتيحها في يده هذه المرة أيضاً، مدعوماً بالمشاريع الكبيرة التي حققها في اسطنبول، من انجاز مشروع مرمراي، الذي يربط قسمي المدينة الأوروبي والآسيوي بخط «ميترو» يمر من أسفل مضيق البوسفور، والبدء بانشاء مطار اسطنبول الثالث الضخم في أراضي شمال المدينة على ساحل البحر الأسود، اضافة إلى جسر ثالث على البوسفور يربط قسمي المدينة أيضاً.
بالتأكيد هذا لا يقلل من فرص مرشّح حزب المعارضة الرئيسي ساري غول، الشاب صاحب الحيوية والاندفاع، والضليع في العمل البلدي المدعوم من التيارات اليسارية والعلمانية في المدينة. إلى جانب التكهنات بأن جماعة غولن قد تدفع أنصارها للتصويت لساري غول نكاية بخصمها الجديد آردوغان، الأمر الذي سيضفي على انتخابات المدينة حالة من الترقب والانتظار حتى اللحظات الأخيرة.
في أنقرة، حزب الشعب الجمهوري ومن أجل جذب كتلة اليمين التصويتية في انتخابات مدينة أنقرة قام بترشيح منصور يافاش، المرشح السابق لرئاسة بلدية أنقرة عن حزب الحركة القومية التركي (يمين) بعد انتقال يافاش إلى صفوف حزب الشعب قبل الانتخابات بشهرين تقريباً ليواجه مرشح الحزب الحاكم ابراهيم مليح غوكتشيك.
لا تبدو معركة انتخابات بلدية أنقرة سهلة للطرفين، وإن أشارت الاستبيانات الأخيرة إلى تقدم مرشح حزب أردوغان بفارق بسيط، فيما يراهن يافاش وحملته الانتخابية على استقطاب كتل تصويتية من اليمين القومي واليسار؛ وذلك عائد إلى قبول عام يتمتع به يافاش إلى جانب استغلال الإنجاز النسبي السابق، الذي جرى تحقيقه في الانتخابات البلدية الأخيرة، وحصوله على ثلاثين في المئة تقريباً من الأصوات كمرشح عن حزب الحركة القومية، وهي نسبة فاجأت الجميع آنذاك.
استطلاعات الرأي الأخيرة لتوجهات الناخبين في أنقرة ما زالت تشير الى تقدم مرشح الحزب الحاكم، وهو الأمر الذي لن يحسم الانتخابات مبكراً، في ظل قدرة مرشح الحزب المعارض على إحداث اختراق في حال قدرته على جذب نسبة وازنة صوتي اليمين القومي، الذين دعموه في الانتخابات السابقة عام 2009.
أما إزمير، فتُعدّ ثالث أكبر مدن تركيا والمدينة الساحلية على ضفاف بحر إيجة بمثابة قلعة حزب الشعب الجمهوري الحصينة، إلى جانب جميع مدن الساحل التركي ابتداءً من مرسين وانطاليا مروراً بموغلا وأيدن وحتى تشاناك قلعة وتكير داغ؛ هذا الشريط الساحلي يستعصي على أي اختراق للحزب الحاكم في معظم الانتخابات البلدية الأخيرة.
آردوغان، ومن أجل كسب معركة إزمير الانتخابية، وضرب حزب الشعب في معقله، دفع بأحد أقدم الوزراء في حكومته إلى هذه المعركة. وزير النقل والمواصلات السابق، بن علي يلدرم، يبدو أنه يخوض معركة خاسرة ومحسومة، فوضع الحزب الحاكم في المدينة أخذ يتأزم أكثر مع أحداث حديقة النزهة، وفضائح الفساد والرشوة التي ضربت الحكومة؛ الأمر الذي تبعته استقالات جماعية للعشرات من أعضاء الحزب في المدينة، منهم اثنان من نواب المدينة في البرلمان، قبل أن يتبعهم رئيس بلدية منطقة «غزي أمير» في المدينة، وثلاثون من قادة الحزب.
احصائيات الانتخابات المقبلة تشير إلى فوز مريح لحزب الشعب في إزمير، ليتأجل حلم آردوغان في كسر سيطرة حزب المعارضة الرئيسي على ثالث أكبر مدينة في البلاد، ومعقل التيار العلماني فيها.

صراع قومي ــ إسلامي

بالتأكيد لا يقتصر صراع الانتخابات المحلية المقبلة في تركيا على الحزب الحاكم، فحزب الحركة القومية حاضر في الكثير من المدن المهمة. صحيح أن فرصته في المنافسة في مدن إسطنبول وأنقرة وإزمير شبه معدومة، إلا انه يسعى إلى المحافظة على بلديات المدن التي يسيطر عليها، وأهمها: أضنة وقسطمونو واسبارطا وباليك أسير، فيما تشير الاستطلاعات إلى أن الحزب يخوض منافسة شرسة في مدن أرض روم وغوموش خانة في أقصى الشرق التركي ومدينة مرسين التي يسيطر عليها حزب الشعب. مرسين تشهد صراعاً ثلاثياً بين الأحزاب الكبرى، متقارباً إلى حد كبير، إلا أن كفة «الحركة القومية» أرجح في هذه المدينة في انتخابات هذا العام.
الحزب يطمح إلى جلب أصوات اليمين التركي، التي دعمت حزب آردوغان في الفترة الماضية، وخصوصاً بعد فضائح الفساد التي ضربت حكومة آردوغان وصراعه مع جماعة غولن.

الأزمة السورية

ليس من العادة أن تؤثر الأحداث في دولة مجاورة في انتخابات بلدية ومحلية في دولة أخرى، وخصوصاً أن هذه الانتخابات تستند أساساً إلى الجانب الخدماتي للمواطنين في المدن. إلا أن الأزمة السورية والانقسام الحاد حولها في تركيا ستؤثر كثيراً في الانتخابات المحلية التركية المقبلة، وخصوصاً في المدن الحدودية مع سوريا وذات الحضور السكاني العربي والحضور الكبير لأبناء الطائفة العلوية. وللتذكير، فقد شهدت مدن هاتاي وأنطاليا تظاهرات حاشدة تأييداً للدولة السورية منذ اندلاع الأزمة هناك.
مدينة هاتاي (الاسكندرون)، التي يغلب على سكانها العرب والعلويون أثارتها بشدة مقاربة رئيس الوزراء التركي للأزمة السورية، وخصوصاً بعض التصريحات الطائفية التي صدرت عنه في توصيف الأزمة هناك. لقد هاجم آردوغان في بعض تصريحاته الرئيس السوري بشار الأسد، واصفاً إياه بأنه علوي يقوم بقتل أهل السنة، الأمر الذي مثل نقطة افتراق حقيقية بين علويي تلك المناطق وحزب العدالة، وما دفع قبل أسابيع رئيس بلدية هاتاي لطفي سافاش، الذي نجح في انتخابات عام 2009 عن حزب العدالة بنسبة 50% من الأصوات مقابل 30% لحزب الشعب الجمهوري، دفعته هذه التطورات إلى جانب فضائح الرشوة والفساد التي ضربت الحكومة إلى الانشقاق عن حزب آردوغان والانضمام إلى حزب الشعب. لقد قام الأخير باعلانه مرشحاً عن الحزب لرئاسة البلدية هذا العام، التي تشير استطلاعات الرأي إلى انه نجح حتى الآن في تضييق الفارق بينه وبين الحزب المنافس إلى 20% تقريباً، فيما تشير التوقعات الى أن ارتدادات الأزمة السورية ستسقط حزب آردوغان عن عرش هذه المدينة الحدودية المهمة.
لخسارة حزب العدالة المدن ذات الغالبية العلوية، إضافة إلى خسارته تمثيل المدن الكردية دلالة مهمة جداً، وخصوصاً أن الحزب عمل منذ تأسيسه على تصوير نفسه ممثلاً لجميع فئات المجتمع التركي، قبل أن تشهد الانتخابات النيابية الأخيرة انتصاراً لحزب السلام والديموقراطية الكردي. لقد انتزع حزب السلام تمثيل الأكراد إلى جانب اتجاه الطائفة العلوية نحو تأييد حزب الشعب صاحب المواقف الإيجابية في الأزمة السورية القائمة، الأمر الذي سيُسقط عن آردوغان تلك الصورة التي حاول ان يرسمها لنفسه ولحزبه، وهو ما سيكون له الأثر الكبير في الانتخابات النيابية في العام المقبل. ويتوقع الكثير من المحللين، وحتى من المقربين من حزب العدالة، أن تشهد كتلة الحزب التصويتية انخفاضاً مهما يصعب من الآن تحديد نسبته، فيما ستؤدي الانتخابات البلدية المقبلة دوراً مهماً في رسم ملامح المشهد السياسي المقبل في تركيا.




مدن كردية

تشهد مدن الكثافة السكانية الكردية صراعاً مهماً وشديد السخونة بين حزب العدالة والتنمية وحزب السلام والديموقراطية الكردي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) المُصنّف إرهابياً في تركيا. استطلاعات الرأي الأخيرة تشير إلى أن حزب السلام والديموقراطية في طريقه لحسم مريح لانتخابات مدينة ديار بكر أكبر مدن الأكراد في تركيا، التي يحاول حزب آردوغان السيطرة عليها لضرب معقل منافسه الرئيسي على تمثيل الأكراد.
في الوقت نفسه، تشهد مدينة فان صراع صوت بصوت بين الحزبين، حيث تتقارب فرصتاهما على نحو كبير وإن كان حزب السلام يتمتع فيها بأفضلية نسبية ضئيلة، فيما يبدو حزب العدالة مرتاحاً أكثر في مدينة شانلي أورفا، وفي طريقه لحسم انتخاباتها إلى جانب تقدم نسبي له في مدينة ماردين. في المقابل تشير استطلاعات الرأي الى تقدم واضح لحزب السلام (بي دي بي) في مدن حقاري وشرناق وسيرت.