مونتريال | لا تستطيع المُزاح مع أبناء مونتريال حول نظام النقل العام، الذي يقدّرونه إلى حدود تتخطّى فاعليته اليوميّة. يتألّف النظام من شبكة محترمة من قطارات الضواحي، ومن أسطول هائل من الباصات. يتلوّى بعضها كالثعابين عند منعطفات المدينة الكندية. الثلج المتراكم على الطرقات لا يؤثر في شراسة السائقين والسائقات، وعزمهم على الوصول على الموعد، لكن برغم دهاء هذه الآليات، فإنّ خطوط المترو الأربعة هي التي تُعدّ قلب نظام النقل فعلياً. شبكة تحت الأرض سهلة ومرتّبة تُسجّل 1.2 مليون رحلة شخصية يومياً. تأخّرت ولادتها نسبياً، حيث إنها لم تر النور إلا في عام 1966. حينها بدأت بتوحيد أبناء مونتريال حول ميزات مدينتهم، حيث سهّلت التنقل والتواصل بين أحيائها المتنوعة ثقافياً وإثنياً، لكن، للمفارقة، تبع ولادتها مباشرة حدثٌ آخر لا يزال حتّى اليوم سبباً لتفريق أهل المدينة، وسكان المقاطعة التي تنتمي إليها، وحتّى تغريبهم عن باقي «الشعوب الكندية». إذ إنه في عام 1968 تأسّس حزب كيبك (Le Parti Québécois). تشكيلٌ سياسي يرمي بالدرجة الأولى إلى الاستقلال عن البلد الأم، كندا، وتحويل المقاطعة الفرنسية الوحيدة بين عشر مقاطعات وثلاث مناطق، إلى بلد فرنكوفوني مستقلّ. سرعان ما حظي الحزب بفرصته الأولى لامتحان شعبية دعواته. نظّم في عام 1979 استفتاءً على الاستقلال، الا أنه مُني بهزيمة كبيرة. بعد 15 عاماً، راهن على استفتاء ثان، خسر مجدداً، لكن هذه المرّة كانت الهوامش أضيق.
الانسلاخ عن كندا
قد يكبد كيبك خسائر تُقدّر بين 5% و7% من الناتج المحلي الإجمالي
منذ أكثر من شهر عاد الرهان الخطير، إذ دعا الحزب نفسه، الذي كان يقود حكومة أقلية، إلى انتخابات عامّة، تُنظّم اليوم، يرمي من خلالها إلى الحصول على غالبية للحكم. غالبية يريد استخدامها لإمرار قوانين مثيرة للجدل، كان قد اختلف حول صوابيتها مع شركائه السياسيين، وفي نهاية المطاف تنظيم استفتاء جديد.
الفرصة بدت شهية لقادة الحزب، وتحديداً لرئيسة الحكومة بولين ماروا. فقد أظهرت استطلاعات الرأي حينها أنهم يتمتعون بغالبية ملحوظة بين أبناء كيبك، الذين يفوق عددهم ثمانية ملايين نسمة، لكن بعد أكثر من شهر من الحملات الانتخابية والمناظرات التلفزيونية الشرسة، انقلبت الموازين. هوت شعبية الحزب إلى ما دون 30%، فيما تقدّم الحزب الليبرالي، الذي يُعدّ المنافس الأوّل للاستقلاليين، والمناهض لطروحاتهم، إلى حدود 38%.
هكذا تحوّل حلم الاستقلال من شاطئ قريب في بحر البحث عن الهوية، إلى سراب قد يطول ويقضي على الحلم من أساسه.
لكن كيف تتغيّر آراء الناخبين الكنديين بهذه السهولة؟ هل معادلة الانسلاخ عن بلدهم الفدرالي خيار يُمكن تبنيه، ومن ثمّ التخلي عنه بين ليلة وضحاها؟
في الواقع، لم تكن الشعبية التي مثلت منطلقاً للدعوة إلى الانتخابات قائمة على فكرة الاستفتاء من أجل الاستقلال، بل نبعت من مخاوف ثقافية وعنصرية أثارها قادة حزب كيبك، ولاقت صدى إيجابياً لدى العديد من أبناء المقاطعة، وتحديداً الفرنكوفونيين منهم.
استخدم الحزب أداةً تُحرّك الغرائز لدى الكثيرين: ضرورة إقرار شرعة العلمانية، التي تصوّب، تماماً كما في فرنسا، على إزالة الرموز الدينية من المؤسسات العامّة؛ بكلام آخر، منع الحجاب، الصلبان الكبيرة (الصغيرة مقبولة)، القبعات اليهودية، إضافة إلى العمائم، وهي أغطية الرأس الرائجة في أوساط السيخ.
يحاجج مناصرو القانون بأنّه لمواجهة المخاطر التي تتهدّد قيم المجتمع، وهو استكمال لجهود تتعلّق بتكريس الفرنسية لغةً رسمية، والسعي إلى الحد من الهجرة.
غير أنّ نقل الاهتمام من الحفاظ على علمانية المقاطعة وقيمها إلى الاستفتاء حول الاستقلال، أضرّ كثيراً بالانفصاليين وشتّت شعبيتهم. وقد ساهم الشباب في هذا التفكّك. الطلاب يرفضون سياسة الحزب الانفصالي. هؤلاء ينتفضون على قيم رفعها جيل الستينيات، وتدهور تأييدها خلال العقود الأربعة اللاحقة. اليوم ينزل طلاب الجامعات بعشرات الآلاف في تظاهرات رافضة لحكومة بولين ماروا ولما تمثّله.
هناك أيضاً مخاوف اقتصادية عديدة تنتج عن الدعوة إلى الاستقلال. منها تحذيرات بأنّ الانسلاخ عن كندا قد يكبد كيبك خسائر تُقدّر بين 5% و7% من الناتج المحلي الإجمالي، إضافة إلى تساؤلات عن مستقبل السياسة النقدية إذا حافظت المقاطعة على الدولار.
من جهة أخرى، هناك تساؤلات هائلة عن مستقبل السياسة الدفاعية، العلاقة الإدارية مع باقي المحافظات، فضلاً عن أسئلة جوهرية تتعلّق بالعلاقة مع الكيان الكندي برمته.
لن تحتاج إلى أكثر من التسامر الصريح في إحدى حانات شارع كريسنت – أو شارع الهلال - (Crescent St)، المشتعل في وسط مونتريال، لكي ترصد فعلاً نبض أبناء كيبك. في مجمع تشرشل الترفيهي، يفضّل لاعب الموسيقى العتيق في المكان تغيير لغة الحديث: «هل يُمكننا التحادث بالفرنسية عوضاً عن الانكليزية؟»، هو يُتقن اللغتين، وأساساً بدأ الحديث بالثانية، غير أنّه مع الغوص في الشجون السياسية لكيبك سرعان ما تنبّه لما يشغله فعلاً: «أنا أؤمن بقيم كيبك، وأساسها اللغة الفرنسيّة التي يجب المحافظة عليها، بل حمايتها» يقول بما يُشبه الانتفاض على سياق الكلام، «لكن في الوقت نفسه لن أصوّت لحزبي (حزب كيبك) في هذه الانتخابات، لأنّني أعتقد أنه شذّ كثيراً» عن ضمان مصلحة أهل المقاطعة. «سأكتفي بورقة بيضاء، وبعزف الموسيقى كما فعلت خلال ثلاثين عاماً!». صحيح أنّ الحانة مسماة تيمناً برئيس الوزراء البريطاني السابق، إلا أنّ الولاء للملكة وللغتها لا يقوم كلياً في كيبك كما تفترض مسلّمات السياسة الكندية والانتماء للعرش البريطاني؛ انتماء تلمسه بوضوح في كل زوايا العاصمة أوتاوا، التي تبعد ساعتين فقط من مونتريال. الولاء هنا للغة، ولارتباط قديم استمر مع فرنسا بعد تأسيس المقاطعة عام 1763 كجزء من المملكة البريطانية، بعدما كانت قد أرفقت بفرنسا نتيجة اتفاقية باريس نتيجة حرب السنوات السبع.
قبل أربعين عاماً، اختار سكان كيبك أن تكون الفرنسيّة لغتهم الرسمية الوحيدة. حالياً، عندما يتحدث السياسيون الليبراليون عن أهمية تعلم اللغتين يهاجمهم الاستقلاليون كأنهم خونة!
اللغة مهمة، والانفصال خطير، لدرجة أن البرلمان الفدرالي أقر في عام 2006 منح أهل كيبك، ثقافتها ولغتها، حيثية خاصة في الدولة.
لكن يبدو أن ذلك لا يكفي. «هناك غضب كبير لديهم»، أي لدى مؤيدي سياسات الانفصال، تقول ستيفاني، التي تعمل في إحدى الوكالات المختصة في سياسات العمل. «أعتقد أنهم سيشنون حملة تصفية ـــ ثقافية طبعاً ـــ بحقّ أبناء الثقافة الإنكليزية إذا فازوا في الانتخابات».
تُشدّد على أهمية التصويت للحزب الليبرالي لتحريك العجلة الاقتصادية، لكن الاهم «إزالة هذا الاحتقان الذي تعيشه البلاد، نتيجة المخاوف من أي خطوات باتجاه تكريس الانفصال».
يتحدّث كمال لطفي، وهو من الناشطين اللبنانيين في السياسة الكندية – كان مرشحاً للبرلمان في عام 2012، واليوم يخوض معارك سياسية مختلفة عبر تويتر – عن خطورة السياسات التي تطورت في المقاطعة خلال العقد الماضي. «لقد عادت بشدّة النزعة الانفصالية المترافقة مع تصاعد العداء للوافدين الجدد». برأيه، لن تصمد الجدران التي يبنيها المجتمع الفرانكوفوني في هذه المقاطعة، وستهدّها سيرورة اجتماعية اقتصادية تُبقي البلاد مندمجة مع كندا، وبعيدة عن الانفصال.
«الأبجدية السياسية للمنتمين إلى حزب كيبك هي: معاداة الإسلام، ضرب الاقتصاد، إقرار شرعة عنصرية، تقسيم المجتمع، الفشل واليأس» يقول لطفي، المستقر في كندا منذ قرابة أربعين عاماً، في إحدى تغريداته.
تغريداته التي تتضمن اتهامات للمنافسين السياسيين بالعنصرية، هي التي دفعت قائد «الائتلاف من أجل مستقبل كيبك»، فرانسوا لوغو، إلى التخلي عن لطفي عام 2012، ودفعه إلى الترشح مستقلاً.
اليوم، ارتفعت أسهم لوغو، بعدما غرف من شعبية الحزبين الكبيرين، واستغل المناظرات لمهاجمة الجميع، وبحسب آخر استطلاعات الرأي فإنّ التأييد لحزبه ارتفع إلى 23%.
أسئلته عن النوايا لتنظيم استفتاء للانفصال أحرجت بولين ماروا خلال المناظرة السياسية الأولى استعداداً للانتخابات. حينها أجابت: «لن نجري استفتاءً حول الانفصال غداة الانتخابات طبعاً. الانتخابات لا تقوم على هذه القضية. سنجري الاستفتاء عندما يصبح أهل كيبك جاهزين له».
بدا الجواب جباناً وضيّق الخناق على رئيسة الوزراء، التي تلقى انتقادات واسعة في صفوف الوافدين الجدد والأقليات إجمالاً. ومع رفض قرابة ثلثي أهل المقاطعة إجراء استفتاء على الانفصال، تحولت تطلعاتها من إمكان تحقيق غالبية إلى الحفاظ على موقع شعبي قوي لفرض معادلة حكومية.
إنها سخريات السياسة التي تلذع من يخاطر بطرح أحلام مرّ عليها الزمان، تماماً كما تلذع الحرارة المنخفضة، التي هوت إلى حدود -30 درجة مئوية تحت الصفر في أكثر من لحظة هذا العام، حتّى في المناطق المدنية.
ما لا يعيه قادة حزب كيبك، أو يرفضون الاعتراف به، هو أنّ قطار التحوّل في كيبك يسير بنفس فاعلية نظام النقل، وعلى الأرجح لن يتمكنوا أبداً من وقفه، جلّ ما يبدو متاحاً لهم الآن، هو العرقلة.




من جرّاح في السعودية إلى رئيس وزراء

يُدلي قرابة ستة ملايين ناخب كندي في مقاطعة كيبك بأصواتهم اليوم لاختيار مجلس وطني جديد. يتألف هذا البرلمان ـــ أو المجلس التشريعي ـــ من 125 نائباً ينتمون أساساً إلى أربعة أحزاب (يضم المجلس الحالي نائبين مستقلّين فقط). ويتقدم الحزب الليبرالي آخر استطلاعات الرأي بنسبة 38% تقريباً. يقوده وزير الصحة السابق، فيليب كويار (الصورة)، الذي عمل طويلاً جراحاً في السعودية، حيث جمع ثروة أثارت ـــ كما فضائح حزبه في الإدارة الفاسدة ـــ الانتقادات لكونها لم تخضع للضرائب. برغم ذلك، قد يُصبح رئيس الوزراء المقبل. خلفه مباشرة تحل قائدة الحزب، ذات الأهواء الانفصالية، بولين ماروا. هي مخضرمة سياسياً، إذ انتخبت للمرة الأولى عام 1982، غير أنّ استراتيجيتها أخيراً كانت فاشلة، وقد تطيح أحلام حزبها نهائياً. ثالثا يحلّ الائتلاف من أجل كيبك، الذي أسسه الانفصالي السابق فرانسوا لوغو عام 2011. أخيراً ارتفعت شعبيته فوق 20%. رابعاً، حزب «كيبك الموحدة» بقيادة ابنة العائلة السياسية العريقة، فرانسواز دافيد، التي تُعد يسارية الهوى، لكن سيادية بامتياز.