بدت ردة فعل موسكو على انهيار حكم الرئيس فيكتور يانوكوفيتش كأنها سلسلة أحداث غير متناسقة وتعكس آليات عمل عقلية روسية تستند إلى القوة والهمجية في التعاطي.ولكن وفقاً لتحقيق معمق نشرته مجلة «تايم» هذا الأسبوع، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عمد خلال العقد الماضي إلى تأسيس وتجهيز وتمويل شبكة عمليات استخبارية مكشوفة وسرية في جميع البلدان المحيطة، من إستونيا الواقعة على البلطيق إلى أذربيجان في القوقاز، لاحتواء أي حدث دراماتيكي كالذي شهدته أوكرانيا.

ينقل التحقيق عن مسؤولين استخباريين من الغرب ومن شرق أوروبا أنّ سيد الكرملين طبّق خلال الفترة الأخيرة خطة مدروسة بعناية لاحتواء أي ضربة للمصالح الروسية في البلدان المجاورة، وبالتالي احتواء أي توسع للنفوذ الغربي؛ يؤكّدون أنّ خطواته الأخيرة لم تكن عبارة عن انفعال همجي لدبّ تمّت محاصرته في الزاوية.
يصف هؤلاء المسؤولون العمليات الاستخبارية التي تجريها موسكو بأنّها «قوّة ناعمة بأطراف حادّة» وتتضمّن استراتيجيات وأدوات مواجهة تُشبه ما كان سائداً أيام الحرب الباردة. تقليدياً، كان هذا التوصيف علامة مسجلة لصالح الاستراتيجيات الأميركية في أوروبا الشرقية وباقي البلدان النامية.
ولكن يبدو أنّ الكرملين يستفيد أيضاً من إنشاء «الجمعيات والمنظمات غير الحكومية» التي ترفع رايات حقوق الإنسان والأقليات أو النوادي الاجتماعية ذات الأهواء القومية لتعزيز روح الانتماء الروسية العليا في المجتمعات التي تنتشر فيها.
وتظهر جهود تلك الجماعات والخلايا النائمة في تحفيز نشاط الأقليات الروسية المنتشرة بمعدلات عالية في البلدان المجاورة؛ 25% في إستونيا و40% في لاتفيا.
ولكنْ هناك هدف ثان، أكبر، للاستراتيجية التي يعتمدها الكرملين في هذا الإطار وهو مواجهة النفوذ الغربي في البلدان المجاورة. صحيح أنّ الترسانة العسكرية التي يتمتع بها حلف شمالي الأطلسي عظيمة، كما تتيح مادته الخامسة تدخل أي دولة لنصرة من يتعرّض لهجوم، غير أنّ «الجهود الاستخبارية (الروسية) في البلدان التابعة للحلف، إنما الضعيفة نسبياً، تُعدّ فعالة بقدر العمليات العسكرية».
وهذا تحديداً ما يُعقّد توصيف «الاحتلال الروسي» للبلدان المجاورة، وبالتالي إمكان تدخل الغرب عبر قواته الأطلسية. وهذا أيضاً ما يضرّ أكثر بالولايات المتّحدة وأوروبا كونه يقزّم دور الحلف وإمكان مناورته.
«إذا عمد – فلاديمير بوتين – إلى تحدّي حلف شمالي الأطلسي بطريقة تشلّ عمله وفقاً للمادة الخامسة، فإنّ ذلك سيكون خنجراً في قلب الحلف» يُعلّق المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، جون ماكلوغلين، في حديث للمجلة.
ومما يظهر، فإنّ الجهود الروسية تكثفت كثيراً خلال السنوات القليلة الماضية ووصلت إلى عقر دار الناتو نفسه، حيث اكتشف مسؤولوه قبل أربع سنوات عميلين روسيين مزعومين ينشطان في مقرّه الأساسي في بروكسل.
وخلال الأزمة الأوكرانية الأخيرة، اتضح أن موسكو أضحت واعية بشكل أكثر حرفة لأهمية الدعاية القومية والسياسية في محيطها، وهي تنفذ خططها مدعومة بتشريعات ذكية كالقانون الذي أقره البرلمان بدفع من الرئيس بوتين، ويجيز لإدارته حماية الأقليات الروسية في المحيط.
يعود المقال إلى عام 2012 حين افتتحت وزارة الثقافة الروسية النادي الاجتماعي، «إزبورسكي»، مباشرة قرب الحدود الإستونية. فعاليات الحدث كانت استخبارية بدرجة ممتازة.
ينقل كاتبه قلق المسؤولين الإستونيين من النشاط المستقبلي لهذا النادي. هواجس أكدها في ما بعد رئيسه، ألكسندر بروخانوف، بالقول: «إنّ نادينا هو مختبر يتم فيه تطوير إيديولوجيا الدولة الروسية؛ إنه محترف عسكري حيث يُصمّم سلاح إيديولوجي سيتم استخدامه مباشرة على أرض المعركة».
لا يُسقط كاتب المقال في المجلة الأميركية، ماسيمو كالابريزي، دور الاستخبارات الأميركية على هذا الصعيد. «الولايات المتّحدة وحلفاؤها ليست بريئة أبداً من لعبة الاستخبارات العالمية». ويُشير إلى نشاط خاص لتلك الاستخبارات في البلدان الأوروبية الشرقية التي تنشط فيها الاستخبارات الروسية على وجه الخصوص.
ينقل التحقيق عن المتحدث باسم الـ CIA، دين بويد، قوله: «لدى الوكالة شراكات قوية في كل بلدان المنطقة. وعندما تندلع أزمة خارجية، من الطبيعي أن تكون الوكالة قادرةً على تعزيز نشاطها لضمان أنّ عملاءنا يتمتعون بأفضل المعلومات المتاحة».
هكذا إذاً يقوّم الجانب الأميركي أهمية الاستخبارات في شرق أوروبا، فلنتخيّل المشهد إذاً من منظور الكرملين، الذي يُعد البلطيق والقوقاز وباقي المحيط امتداداً لمصالحه ونفوذه.
لا شكّ أن النظام السوفياتي المندثر خسر كثيراً في المواجهة مع المعسكر الغربي، ليس فقط في المجال الاستخباري، بل الثقافي والاقتصادي، وبقيت الخسارة إرثاً ثقيلاً على روسيا. فلنأخذ مثلاً إحدى العمليات الاستخبارية الغربية التي كُشف النقاب عنها أخيراً: في عام 1958، نصحت الاستخبارات البريطانية نظيرتها الأميركية بإعداد نسخ عن كتاب «الدكتور جيفاغو»، للشاعر الروسي الشهير، بوريس باسترناك، ونشرها وراء الستارة الحديدية.
أعجبت الفكرة الإدارة الأميركية نظراً إلى الأفكار التي حملها كتاب باسترناك المكروه من الحكم في موسكو. بحسب مذكرة من وكالة الاستخبارات المركزية إلى وحدتها الخاصة بالعمليات السوفياتية _ رُفعت عنها السرية أخيراً مع 130 مذكرة أخرى _ فإنّ للكتاب «قيمة دعائية عظيمة» وهو يمثل «فرصة لجعل المواطن الروسي يتساءل عن الخلل الذي يعتري حكومته».
كان نشر الكتاب جزءاً من صراع أدى في نهاية المطاف إلى سقوط أحد الماردين. اليوم، بعد أكثر من نصف قرن على هذا الكلام، ومع اشتعال الجبهة الشرقية الغربية من جديد، تظهر أدوات جديدة للمواجهة في الحرب الباردة، ويبدو أن فلاديمير بوتين تعلّم كثيراً من أخطاء أسلافه _ أكان من المجتمع الاستخباري أم من طبقة الأنتلجنسيا (أي النخبة المثقفة) _ وهو ينفذ استراتيجية سيادية تقليدية، إنما بمرونة عالية.