دخلت الولايات المتحدة مؤتمر «بريتون وودز» عام 1945، متسلّحة باقتصادها القوي وبأكثر من 20 ألف طنّ متري من الذهب. حينها كانت أوروبا، وتحديداً المملكة المتحدة، في حالة إرهاق رهيب بعد الحرب العالمية الثانية. بعد انتهاء فعاليات المؤتمر الشهير، كانت أميركا سيدة العالمين النقدي والمالي: رُبط الدولار بالذهب وأضحى العملة الكونية، وتأسست المؤسسات التي ترعى «التوازن الدولي»، بسيطرة أميركية مكشوفة مع حصص مرعية للقارة العجوز.
بعد سبعين عاماً على هذا الحدث التاريخي، استضافت مدينة فورتاليزا البرازيلية، هذا الأسبوع، مؤتمر البلدان النامية الكبرى، أو مجموعة BRICS، الذي يهدف إلى قلب المعادلة التي أرساها الأول!
فقد توصل قادة البرازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوب أفريقيا إلى اتفاق على إنشاء مصرف استثماري بأهداف تنموية، يبلغ حجمه 50 مليار دولار، سيرى النور ويبدأ بتقديم القروض فعلياً في عام 2016، بعد إقراره على مستوى السلطات التشريعية في البلدان المعنية.
في المبدأ، يهدف هذا البنك إلى طرح البديل من مؤسسات «النظام القائم» ــ مثل البنك الدولي والبنك الأوروبي للاستثمار والتنمية ــ التي أثبتت التجربة مراراً أن قراراتها ملوثة سياسياً، وبمصالح غربية واضحة، على حساب ميزانيات الشعوب ورفاهيّتها.

الاتفاق يُعدّ
الإنجاز الأكبر للمجموعة منذ تموضعها عام 2009 للمطالبة بدور عالمي يناسبها

غير أن ما اتفق عليه القادة لا يشمل هذا فقط، بل توصلوا إلى إقرار آلية الدعم النقدي بقيمة 100 مليار دولار، وهي مشكّلة من الاحتياطات الأجنبية لكل بلد، وتُشكّل خزنة يغرف منها البلد المأزوم نقدياً، من دون الاضطرار إلى الركوع على باب صندوق النقد الدولي، وتوسل قرض بفوائد وشروط خيالية.
للخطوة التي اتخذتها البلدان النامية الخمس أبعادها الجيوسياسية؛ فهي تأتي في وقت يهاجم فيه الغرب روسيا، لسياستها في شرق أوروبا، ويفرض عليها عقوبات. مثلاً، لقد شكّل الضغط على الروبل والتلويح بعزل روسيا عن المؤسسات المالية العالمية أخطر أوجه «العقاب الغربي»، بعد اندلاع أحداث شرق أوكرانيا وسيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم.
أعرب قادة المجموعة بصراحة عن رغبتهم في الانعتاق من هذا التسلط المالي والنقدي الغربي، وتحديداً من قبل الولايات المتّحدة. وبحسب الرئيسة البرازيلية المضيفة ديلما روسيف، فإنّ آلية الدعم النقدي ستساهم في احتواء الهشاشة التي تواجهها الاقتصادات المختلفة، من جراء وقف سياسة التوسع النقدي في الولايات المتّحدة، أي برنامج التسيير الكمي أو شراء المصرف المركزي للسندات الحكومية، بهدف تحفيز السوق المالية؛ ما يعني أن اقتصادات المجموعة لن تعود مرهونة كلياً لسياسات واشنطن أو لعقوباتها.
الأمل الذي تبثه مجموعة الـ«بريكس» اليوم يتمثّل في التوازن الذي تفرضه على العالمين النقدي والمالي، والذي لا يُمكن إلا أن يكون مفيداً للفقراء والمهمّّشين. فعلياً، وبعد انطلاق «بنك التنمية الجديد» ــ كما اصطلح على تسميته ــ سيفتح أيضاً باب العضوية لباقي البلدان المهتمة، شرط أن تبقى حصّة الدول المؤسسة من رأس المال فوق 55 في المئة.
لم يكن مخاض ولادة البنك سهلاً. «لقد نجحنا قبل انتهاء المباراة بعشر دقائق وتوصلنا إلى اتفاق مرض للجميع»، قال أحد الديبلوماسيين لوكالة «رويترز»، في إشارة إلى صعوبة المشاورات التي كانت دائرة.
فعلياً، استمرت المحادثات قرابة عامين متأرجحة بين طموحات الصين والهند للتمتع بنفوذ أكبر في المؤسسة الجديدة، مقارنة بحصص الآخرين. ولكن الأهم هو أن الاتفاق يُعدّ الإنجاز الأكبر للمجموعة، منذ تموضعها المتقدم عام 2009 للمطالبة بدور يناسب حجمها في الاقتصاد العالمي؛ وهو الخمس تقريباً.
هكذا استقرت الصفقة على حصول الجميع على حصة مساوية: المقر سيكون في الصين؛ الرئيس الأول سيكون هندياً؛ الرئيس الأول لمجلس الحكّام سيكون روسياً؛ الرئيس الأول لمجلس المديرين سيكون جنوب أفريقياً.
«إنها المحاصصة الديموقراطية!»، إذا أردنا أن نستخدم تعبير وزير المال البرازيلي غيدو مانتيغ الذي شدّد على أن البنك، بخلاف المؤسسات الدولية الأخرى مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ــ المُدارين أميركياً وأوروبياً ــ، سيكون «ديموقراطياً على نحو فعلي».
خلال فترة العقد الماضي، كان بالإمكان تصوّر وصول المجموعة إلى هذه المرحلة من التعاون، إذ منذ إطلاق المدير في مصرف «غولدمان ساكس» جيم أونيل، في عام 2001، التعبير الشهير BRIC لتمييز البلدان الأربعة ذات الأفق التنموي الأغنى ــ البرازيل، روسيا، الهند والصين ــ ازداد دور هذه البلدان في العولمة، وعزّزت دورها كمحرّك النمو العالمي. وبعد عقد كامل انضمت جنوب أفريقيا إلى المجموعة، لتُصبح التسمية BRICS.
لا خلاف حول القوة العليا التي تتمتع بها الصين في هذه المجموعة. فاقتصادها يمثّل 70 في المئة من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي للبلدان الخمسة مجتمعة، وهو أساساً الثاني الأكبر عالمياً، ومن المتوقع أن يتجاوز الاقتصاد الأميركي في رمشة عين. إضافة إلى ذلك، تتمتع الصين بأكبر احتياطي أجنبي في العالم أجمع.
غير أن البلد الآسيوي فضّل في المدى المتوسط الحفاظ على تواضع معيّن: صحيح أن المدينة البراقة، شانغهاي، ستكون مركز البنك المنتظر، إلا أن الصين لن تحصل على حق رئاسة البنك، إلا بعد مرور عقدين على الأقل.
في المقلب الآخر من النقاش حول دور العملات الناشئة ونفوذ بلدانها الاقتصادي والنقدي، يعتقد بعض الخبراء، وتحديداً من عالم المال والاستثمارات، بأنّ هناك تخمة من بنوك التنمية، من بنك التنمية الكاريبي مرورواً بالبنك الإسلامي للتنمية وصولاً إلى البنك البرازيلي للتنمية الذي يُعدّ أكبر من البنك الدولي من حيث قيمة القروض الممنوحة، ولديه فروع في جنوب أفريقيا، الأوروغواي وحتّى المملكة المتحدة.
وبالتالي، يرى هؤلاء أن هذه الدول النامية يجب أن تركز على تعزيز النظام المالي الذي يحكم تداولاتها ومعاملاتها. فهي حتى اليوم لا تزال تعتمد على المراكز المالية الأساسية ــ من لندن إلى نيويورك ــ وعلى العملات العالمية فعلاً (الدولار واليورو والين)، لإتمام تبادلاتها التجارية وإدارة تدفقاتها الاستثمارية.
الرأي هنا أن الاستمار في البنية التحتية المالية هو فعلاً ما تحتاج إليه هذه البلدان النامية لكي تشبك تعاملاتها المالية وتجذب الآخرين، متخلّصة من سطوة مديري النظام المالي العالمي. وأبعد من هذه النتائج المباشرة، هناك تصور يفيد بأن خطوة كهذه من البلدان النامية، هي ما يحتاج إليه الاقتصاد العالمي لتحقيق العولمة المالية الحقيقية.
أي عولمة سنشهد خلال العقد المقبل نتيجة قرارات البلدان النامية؟ الجواب سيبدأ بالتبلور سريعاً، وتحديداً بعد عامين وليس بعد أربعة أعوام، كما هي الحال عليه في مونديال كرة القدم!