يفصل عقدان ونيف بدء تفتت يوغوسلافيا السابقة في نهاية الثمانينات وبداية تسعينات القرن الماضي، والذي ختم بانفصال الجبل الاسود عن صربيا عام 2006، وبداية الحرب السورية، وبينهما غزو العراق في 2003.
اوجه الاختلاف كثيرة بين التجربتين، وخاصة في ما يتعلق بسوريا، لجهة تشكل كل من الكيانين السياسيين تاريخيا والعوامل والآليات السياسية الداخلية التي تحكمت في مفاصل القرار السياسي وآلية إدارة الصراع بين مكونات البلدين والمجال الجيوـسياسي لكل منهما وتشعباته الإقليمية والدولية، أو لجهة انفراط عقد الاتحاد اليوغوسلافي واحتمالات نتائج الحرب السورية على مستوى إعادة رسم الخريطة السياسية لهذا البلد واقعا واسميا.
وكذلك، أوجه الشبه بين أزمتين داخليتين معقدتين على نحو يصح معه وصفهما بالمسائل. الأولى ثمرة تطور تاريخي معقد بين مكونات قومية، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لم تعرف النخبة الصربية كيفية مراعاته وإدارته بعد انهيار الاتحاد السوفياتي حين دقت ساعة تغير الجغرافيا السياسية في أوروبا الوسطى والشرقية، فانفجرت سلسلة حروب ادت إلى تقسيم يوغوسلافيا. والثانية ثمرة تراكمات منذ تسلم حزب البعث للسلطة في سوريا سنة 1963 على الاقل، والادارة السلطوية للشؤون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية طبعا، فضلا عن عوامل ثانية مرتبطة بطبيعة النخبة الحاكمة.
عام 1991 بدأت روسيا رحلة نزول الى الجحيم دامت حوالى العقد
مثل وصول بوتين الى السلطة انعطافا في اوضاع روسيا الداخلية والخارجية

لكن أوجه المقارنة أكثر إثارة في المشهد الدولي، ولا سيما في ما يتعلق بالدور الغربي في إذكاء الصراع، والوضع الروسي الداخلي، اقتصاديا وسياسيا، والعلاقة مع الغرب القريب أي أوروبا، والأبعد، الولايات المتحدة، وخاصة محاولات احتواء وعزل روسيا سياسيا واقتصاديا وقدرتها على رفع التحدي بين التسعينات واليوم. المقارنة بين سلوك وقدرات موسكو في يوغوسلافيا وفي سوريا نموذجا.
لم يكن الدور الأورو ـ أميركي غائبا عن التدخل في سلسلة ازمات يوغوسلافيا السابقة على نحو مبكر، منذ اعتراف المانيا والفاتيكان المستعجل باستقلال كرواتيا وسلوفينيا اواخر 1991، الى فرض وقف لاطلاق النار بين الصرب والكروات وارسال 14000 جندي اممي في اوائل 1992 للفصل بين الجانبين، فشن حرب جوية على صربيا في 1999، ومن دون المرور بمجلس الامن طبعا، وصولا الى رعاية اعلان الالبان لاستقلال الاقليم في 2008. إذا كانت السياسة الصربية فضلا عن العوامل الاخرى غير المباشرة، ادت الى وصول الامور الى الحائط المسدود في عملية سياسية كان من الممكن لها ان تنجح، فلا شك بأن المسؤول الاكبر عن تفتيت يوغوسلافيا بهذه الطريقة الدراماتيكية والدموية هي اجندات بعض الدول الغربية.
أما في الشأن السوري، فلا بد من التذكير بأن موجة الاحتجاجات التي بدأت في 2011 ليست الاولى التي يواجهها حزب البعث، فلقد سبق له ان واجه مثلها –الى حدود معينة- في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات في وجه تنظيم الإخوان المسلمين، ونجح في حسم الصراع لمصلحته بالقوة العسكرية من جهة، وبإعادة صياغة التفاهم مع رافعاته على الأرض من الريف وصولا الى طبقة التجار مرورا بالمؤسسة الدينية السنية، مع فارق السياق والتدخل الخارجي غير المسبوق الذي اوصل الصراع الى ما وصل اليه اليوم، فضلا عن تصميم الدولة السورية على المواجهة.
بالعودة إلى الشأن الروسي المباشر، يبقى الوضع الداخلي، سياسيا واقتصاديا، هو الأهم، وخاصة في ظل نفس طبيعة محاولات العزل والاحتواء السياسي، والتضييق والخنق الاقتصادي التي اتبعتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون عقب انهيار الاتحاد السوفياتي.
مع انهيار الاتحاد السوفياتي في 1991 بدأت روسيا رحلة نزول الى الجحيم دامت حوالي العقد، وتميزت بعدم الاستقرار السياسي والأمني الحادين، اضافة الى وضع اقتصادي ومالي كارثي. فخلال السبع سنوات التي تبعت انهيار الاتحاد السوفياتي وعلى سبيل المثال فقط انخفض الناتج المحلي الى النصف، والاستثمارات بنسبة 90%، كما سائر المؤشرات الاقتصادية. وحدها معدلات التضخم والبطالة ارتفعت على نحو مخيف، وصولا الى الازمة الاقتصادية الكبرى صيف 2008 حيث وصلت روسيا الى حافة الافلاس.
خارجيا انعكس هذا محاولات روسية فاشلة لأداء دور كقوة عظمى على الساحة الدولية، فكان على موسكو ان تأخذ بعين الاعتبار، وبحجم اكبر من المتوقع، انهيار موقعها على المستوى الدولي، وانفراد الولايات المتحدة بالقرار. واحد أفضل نماذج هذا الواقع هو الحرب الأطلسية على صربيا حليف موسكو، التي تقاطعت زمنيا مع احدى اسوأ مراحل التخبط الروسي اقتصاديا في الداخل. وهو ما منع موسكو على نحو أساسي من التدخل على نحو فعال لمصلحة حليفتها بلغراد.
مثّل وصول فلاديمير بوتين الى السلطة انعطافا في اوضاع روسيا الداخلية، وعلى الساحة الدولية. فاعادة الامساك بمفاصل السلطة، واعادة تركيز دعائم الفدرالية انطلاقا من القواعد الثابتة للدولة العميقة، كالجيش واجهزة الاستخبارات، التي يمثل وصول بوتين للسلطة شكلا من اشكال رد فعلها على عقد من التفتت السياسي والعام، واستعادة السيطرة على القطاعات الاقتصادية الحيوية، ولا سيما النفط والغاز من خلال وضع حد لسياسة اللبرلة الاقتصادية الناهبة للدولة واركاع الاوليغارك والاتجاه بالاقتصاد نحو نموذج راسمالية الدولة وفي خدمة مصالحها، اضافة الى الادارة الضريبية، كلها عوامل سمحت باعادة بناء القوة الروسية داخليا، وهو ما عكسته نسب النمو السنوية وانتعاش الاقتصاد، واعاد لروسيا جزئيا امكانات سياستها على الصعيد الدولي. وهذا ما عبر عنه الموقف الروسي من ازمة جورجيا في صيف 2008 بعد الاستفزاز الجورجي الاحمق لروسيا والمدعوم اطلسيا. وهو يأتي في اطار رد الفعل الروسي الطبيعي على محاولات الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين التوسع دائما سياسيا وعسكريا نحو حدودها، وخاصة في الازمة الاوكرانية الراهنة.
والمؤشر الثاني هو موقف روسيا من الحرب السورية، وان كان الفصل بين اوكرانيا وسوريا يفرض نفسه بديهيا، فان الدلالة واحدة وهي نية وقدرة روسيا على المواجهة.
ففيما لم تكن روسيا يلتسين قادرة على فعل شيء في صربيا سنة 1999 غير ارسال قوة صغيرة للمشاركة في ادارة اقليم كوسوفو بعد انسحاب الجيش الصربي منه، ومُنع الروس من المشاركة عمليا في الانتشار في الاقليم المذكور عبر محاصرتهم لوجستيا، جاءت المظلة الروسية لسوريا افعل، لجهة تنفيذ صفقات السلاح الموقعة مع دمشق وتوريده اليها، أو لجهة استخدام حق الفيتو في مجلس الامن، مستفيدة من توازنات سياسية جديدة قوامها القدرة الروسية على المواجهة لجهة قدرتها الذاتية على ذلك وانكفاء الدور الاميركي في المنطقة بعد الانسحاب من العراق في 2011.




ثوابت أميركية وغربية

الثابتة في السياسات تجاه روسيا هي عدم الاعتراف الاميركي والاوروبي بالمصالح الموضوعية لروسيا التي يُعبَر عنها بالسياسات العدائية تجاهها المتمثلة بتوسيع حلف شمال الاطلسي شرقا على نحو يخالف الضمانات التي كانت اعطيت لها سابقا والقيام بضم دول البلطيق ولاحقا بولونيا الى الحلف، ومحاولات جذب اوكرانيا الى الاتحاد الاوروبي تمهيدا لضمها الى الحلف نفسه. او عبر دعم سياسات اقتصادية ذات مفعول كارثي على الاقتصاد الروسي في الماضي القريب، والعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها عليها منذ فترة قصيرة، والتي بدأت تعطي مفاعيلها السلبية على الاقتصاد الروسي الذي بات مهددا بالانكماش بعد سنوات من مؤشرات النمو الايجابية. أما المتغير فهو القدرة الذاتية لروسيا بحيازة إمكانات سياساتها الخارجية، وهو الذي تغير منذ ربع قرن، والموقف الروسي على الأرض السورية مؤشر ومحك لهذا التغير في آن واحد.