لم تكن سوى مسألة وقت، ويبدو أنها حُسمت أسرع من المتوقع. أخيراً قال صندوق النقد الدولي في تقديراته العالمية إن الاقتصاد الصيني أضحى الأكبر في العالم، متخطّياً الولايات المتحدة التي تربعت على العرش لقرن ونصف قرن بعد إطاحة بريطانيا.
معتمداً على معيار القدرة الشرائية ـ وهي طريقة حساب لتصفير تأثير فرق أسعار صرف العملات في السوق ـ يُقدّر الصندوق حجم الاقتصاد الصيني بأنه 17،6 تريليون دولار، أي أكبر من غريمه الأميركي بـ200 مليار دولار.
لقد مهّدت عوامل كثيرة للصعود الصيني إلى هذا المستوى. جذورها في سياسة النهوض عبر الانفتاح والتطوير الصناعي التي أطلقها دينغ كزاوبينغ في نهاية سبيعينيات القرن الماضي. أمّنت هذه السياسة للبلاد منصة لرفع مئات الملايين من الفقر ولغزو الأسواق العالمية وترسيخ البلاد معملاً للعالم.
صحيح أن شركات عالمية كثيرة تُعيد النظر في وجودها على الأراضي الصينية ـ إنتاجاً وربما تشغيلاً ـ نظراً إلى التحولات السريعة التي يشهدها البلد، من المطالب العمالية الحقوقية إلى المنافسة العالية المدعومة سياسياً، غير أن البلاد تبقى حتى المدى القصير، في الحد الأدنى، المركز الأساسي للتصنيع والوجهة الأولى للبحث عن اليد العاملة الرخيصة، والخبرة في التصنيع، والتسهيلات التي عززتها عقود من التخصص.
السنوات الخمس المقبلة ستكون مفصلية على مستوى توزّع النفوذ الاقتصادي والنقدي عالمياً

ولكن أبعد من سياسات دعم التصنيع وجذب الشركات العالمية، تنفذ بكين استراتيجية طموحة لنشر نفوذها الاقتصادي جغرافياً وتنويع قاعدة استثماراتها. في المراحل الأولى تركّزت تلك الاستراتيجة على المناطق الغنية بالمواد الأولية التي يفتقدها الاقتصاد الصيني المتعطش إلى الطاقة.
وخلال السنوات الأخيرة، وتزامناً مع تعثّر الاقتصادات الغربية نتيجة الأزمة المالية، تحولت استثمارات بكين إلى التكنولوجيا والأصول المصرفية؛ من مصانع السيارات إلى الأسهم في شركات السمسرة، كان من الصعب كبح شهية المارد الصيني المتمتع بمحفظة عملات صعبة تقارب 4 تريليونات دولار (4 آلاف مليار دولار).
كان لحفلة الاستثمارات الصينية في أسواق أوروبا وأميركا الشمالية ـ بعد رحلة استثمارية مستمرة منذ سنوات في أفريقيا ـ صدى عالمي أوضح الحجم الذي أضحت تتمتع به الصين. إنه الاقتصاد الذي يخشاه الجميع، أكان حليفاً أم عدواً! رغم ذلك، لم تكن الصفقات الصينية المعقودة عبارة عن إنجازات في إدارة الأعمال أو فتوحات للسيطرة على تكنولوجيا جديدة.
فالمبالغ التي تكبدتها الشركات الصينية الباحثة عن فرص في أوروبا مثلاً كانت أكبر بكثير من قيمة الأعمال المعروضة للبيع. السبب هو الضغوط التي يفرضها المشرعون والتي ترفع من عامل البدل عن التخلي عن الأصول.
ولكن الملاحظة الأهم هي أن الصيد الذي ناله الصيني في لحظة ضعف الغرب لم يكن بالسمنة المطلوبة. فقد حرص المشرعون على أن تكون سيطرة العملاق الشرقي محصورة في مجال التكنولوجيا الأقدم، على أن تبقى التقنيات الأحدث محمية من سيطرة الرجل الأصفر.
اليوم تستمر الصين في سياساتها التوسعية. وصحيح أنها تحقق خطوات لافتة على مستوى نوعية الإنتاج والتكنولوجيا، غير أنها تبقى وراء ما يملكه الغرب. يُمكن شركة Xiaomi أن تصنع هواتف ذكية تكون من بين الأكثر إغراءً في العالم، غير أنها تبقى محاولة استنساخ عن هاتف iPhone الذي، للمناسبة، يُصنع بدوره في الصين.
كذلك، يُمكن أن تكون شركة «علي بابا» للتجارة الإلكترونية عملاقاً جديداً في العولمة التكنولوجية، غير أن أسهمها مدرجة في نيويورك، وشركة Yahoo! الأميركية هي من أكبر المستثمرين فيها، فضلاً عن أن الشركات المسيطرة في هذا المجال (Amazon، eBay...) جميعها أميركية.
إذاً، لا يزال مشوار الصين في بداياته لتحويل حجمها الاقتصادي إلى نفوذ اقتصادي ونقدي، عبر تخفيف وطأة الدولار والأوراق المالية الأميركية (رغم أن الصين تحمل غالبية الدين الأميركي). فتحويل الحجم إلى نفوذ وتقدم معرفي وتكنولوجي يتطلب مفاضلات سياسية معقدة، لأنه يفترض تنحّي قوى قديمة ووصول لاعبين جدد إلى القمة. مثلاً، البلوغ الاقتصادي الصيني يحتّم دوراً أكبر في المؤسسات الدولية، مثل صندوق النقد نفسه. وفي حال تصاعدت حدة الصراع الاقتصادي لبسط النفوذ، فقد تتحول المواجهة إلى حرب عسكرية (وهي لا تتوقف أبداً على مستويات الأمن، التكنولوجيا والثقافة).
اليوم، يتوقع خبراء صندوق النقد أن يستمر الاقتصاد الصيني في التوسع والنمو وإن بوتيرة أبطأ. في العالم الجاري سيبلغ معدل نموّه 7،4%، أي أكثر من ضعف المعدل المتوقع تسجيله على المستوى العالمي، وأضعاف ما سيسجّله العالم الغربي.
خلال المدى المتوسط سيكون الأداء مبهراً. في عام 2019 سيُصبح حجم الاقتصاد الصيني 26،98 تريليون دولار، موسّعاً الفارق مع الاقتصاد الأميركي إلى ما يوازي خمس حجم الأخير.
لا شكّ في أن السنوات الخمس المقبلة ستكون مفصلية على مستوى حسم توزع النفوذ الاقتصادي والنقدي في العالم، وأن الدور الصيني سيكون محور التحول المرتقب.