يحوم سعر برميل النفط حالياً حول 85 دولاراً. ومع حركته تحوم الأنظار حول وضعية الدول التي تتمتع بالنفوذ الكافي لتحديد اتجاه السوق.مقارنة بالمستوى العالي الذي سجّله في حزيران الماضي، يكون سعر البرميل من مزيج «برنت» الذي يُعدّ المرجع لتحديد أسعار المشتقات النفطية، قد هوى بنسبة 23%.

صحيح أن تراجع الطلب نتيجة تباطؤ الاقتصاد العالمي يُفسّر الكثير من الحكاية، غير أنّ العرض الفائض المسجّل منذ ربيع العام الماضي له الدور الأكبر. تُفيد الإحصاءات بانّ العرض العالمي للنفط خلال هذه الفترة فاق المعدل المسجل في العام السابق بهامش يراوح بين مليون ومليوني برميل يومياً. ووصل الفارق إلى أوجه في أيلول الماضي حين بلغ 2.8 مليون برميل نتيجة بيع السعودية كميات كبيرة للزبائن في مختلف الأقاليم بأسعار منخفضة دون 40 دولارا للبرميل (راجع: السوق تغرق في النفط السعودي)
التحليل العقلاني لهذا الوضع في السوق هو أنّ بعض منتجي النفط الكبار – تحديداً الولايات المتّحدة والسعودية – يريدون فرض أجنتدهم على المنتجين الآخرين، أبرزهم روسيا وإيران. وبما أنّ محور الرياض – تكساس بإمكانه تحمّل تراجع نسبي للأسعار فإنّ هذه الخطّة تبدو منطقية لكسر موقع موسكو وطهران في أي محادثات قائمة أو حرب دائرة.
كيف تستطيع السعودية تحمّل عبء تراجع السعر؟ ببساطة لأنها تعتمد على الكمية الهائلة لإنتاجها وعلى احتياطياتها من العملات الأجنبية التي تصل إلى 750 مليار دولار. هي ليست تحت أي نوع من العقوبات، بل على العكس تجمعها علاقة متينة وإن متذبذبة أحياناً مع البلد المسؤول عن فرض العقوبات، الولايات المتّحدة. والأهمّ هو أن المملكة، وفي ربط موقفها مع التطورات الميدانية والسياسية في الشرق الأوسط، تستطيع التضحية ببضعة مليارات الدولارات بهدف كسب حجر أو حجري داما على خارطة الشرق الأوسط.
أما الولايات المتّحدة فقد أثمرت تقنياتها الجديدة لاستخراج النفط الصخري خلال العقد الماضي، فائضاً في الإنتاج (لا شكّ أن سياسة الرئيس باراك أوباما أدت دوراً مهماً في إطار فكّ ارتهان الولايات المتّحدة لمنتجي النفط وتحديداً في الشرق الأوسط). وبخلاف جميع نظريات «أوج الإنتاج» (Peak Oil) بدأ إنتاج الولايات المتّحدة من الوقود الاحفوري بالارتفاع منذ عام 2009، وتسارعت الوتيرة في خمس سنوات ليبلغ المعدل 8.3 ملايين يومياً في النصف الأول من العام الجاري، على ما تنقله صحيفة «وول ستريت جورنال».
وبنتيجة هذا الفائض في الإنتاج أضحت واشنطن أكثر ارتياحاً لوضعيتها الطاقوية، التي لم تعد رهناً بمؤشرات تكساس التقليدية. تدريجاً تتراجع كلفة استخراج النفط الصعب نتيجة التقنيات التي تستخدمها. اليوم، وصل المنتجون في هذا المجال إلى سعر كلفة يبلغ 70 دولاراً للبرميل؛ هذا يعني أنّه طالما أن السعر فوق ها المستوى فإنّ الأعمال تستمرّ من دون خسائر.
في المقابل، المعطيات النفطية في المحور الآخر ليست مشجعة إلى هذا الحدّ. بداية مع روسيا. صحيح أن هذا البلد يُعدّ الأول عالمياً في تصدير منتجات الطاقة، إلا أنّ مجموعة من العوامل أضحت تضيق عليه الخناق على المستويين المالي والنقدي تحديداً.
هناك إجماع بين المراقبين على أنّ العقوبات الاقتصادية التي تعززت تدريجاً منذ «اجتياح» أوكرانيا في بداية الصيف، بدأت تقضم من احتياطي العملات الأجنبية الذي تتمتع به روسيا والذي راكمته طوال العقد الماضي. حالياً يبلغ حائط الدفاع هذا 450 مليار دولار، مبلغ محترم يعكس موقع روسيا الطاقوي، غير أنّه لا ينفي أن أداء الروبل كان الأسوأ عالمياً خلال الأشهر الثلاثة الماضية.
حتى اليوم بلغت قيمة الدعم الذي خصصته السلطات الروسية لإنعاش الروبل 13 مليار دولار؛ ويبدو أنّ المصرف المركزي مستعدّ لضخ المزيد من العملات الصعبة في السوق. قبل يومين أعلن أنه سيعرض ما يصل إلى 3.5 مليارات دولار (عبارة عن اتفاقات إعادة شراء للعملات) في إطار مزاد هذا الشهر.
ويأتي تراجع أسعار النفط اليوم، ليزيد من الهموم المالية لموسكو التي تُعدّ لدفعات دسمة على دينها العام في هذا الموسم (كما في الربع الأخير من كلّ عام) والتي كانت قد صاغت توقعاتها الاقتصادية وخطت موازنتها بناءً على سعر للنفط عند 90 دولارا للبرميل بالحد الأدنى؛ في الأساس تعتمد روسيا على الموارد الأولية لتأمين نصف ميزانيتها السنوية.
تأثر إيران يبدو أخف نسبياً لكونها استفادت أخيراً من الانفراج الذي أحدثته المحادثات مع الولايات المتّحدة حول برنامجها النووي وتحرير مليارات الدولارات من أموالها المحجوزة. كذلك انتعشت نتيجة حصولها على المعدات التكنولوجية الأساسية لإعادة تأهيل قطاعات أساسية عانت الجفاء مع الغرب، أبرزها قطاع الطيران.
أخيراً، تحسنت آفاق النمو للجمهورية الإسلامية، لدرجة أن صندوق النقد أشار إلى أنها ستخرج من الركود هذا العام، وأن اقتصادها سيتوسع وإن ليس بالشكل المطلوب.
غير أنّ نار النفط لا تلذع فقط الروبل والريال والاقتصادين الإيراني والروسي، إذ نتيجة تراجع الأسعار هناك تحولات في السوق الأميركية نفسها: عندما يتراجع سعر النفط تتأثر ميزانيات الشركات الصغيرة ما يفتح شهية الشركات العملاقة صوب الاستحواذ وتعزيز مكانتها السوقية.
بالاستناد إلى بيانات جمعتها وكالة «بلومبرغ»، فإنّ السقوط الحر الذي شهده سعر النفط أخيراً محا أكثر من 20 مليار دولار من القيمة السوقية لشركات منتجة للنفط تُعدّ «أهدافاً محتملة» لأسماك القرش النفطية.
من بين الشركات الكبرى المهتمة بابتلاع الأسماك الصغيرة أسماء مثل Chevron وExxonMobil وConoccoPhilips. وللتذكير، هذه الأسماء هي نفسها التي ترددت خلال اجتياح العراق عام 2003 وبعده، مع تكشف حجم العقود النفطية الهائلة التي وقعتها. وفعلياً، الشركة الاولى هي الأكثر نفوذاً لكون سيولتها المباشرة تبلغ 14 مليار دولار، وهو ضعف ما تملكه الشركة الثانية.
واللافت في هذا السيناريو الدرامي الذي تشهده السوق الأميركية هو أن الشركات المستهدفة هي نفسها التي كانت تُطوّر تقنيات التنقيب عن النفط الصخري، وهو المورد الذي أمن للولايات المتّحدة دفعاً في سوق الطاقة وعزّز من موقعها التفاوضي مع منتجي النفط، وبينهم السعودية نفسها.
تنقل الصحف الأميركية المتخصصة أجواءً تفيد بأن الشركات الكبرى كانت تنتظر هذه الفرصة لانه لا يُمكنها فقط شراء التكنولوجيا التي طورتها الشركات الصغيرة بل أيضاً يجب فهمها، وذلك غير ممكن من دون إتمام عمليات استحواذ.
خلاصة الكلام هي أن أي انخفاض في أسعار النفط له ارتدادات على مستوى البلدان والأسواق من الشرق إلى الغرب. هذه المرّة يبدو أن هناك تنسيقاً بين واشنطن والرياض لإغراق السوق وإيلام الأعداء؛ قد لا يكون التنسيق صريحاً ومباشراً غير أنّه يفيد الطرفين من دون شك.