ما الذي جمع الدبّ الروسي بالتنين الصيني؟بين ليلة وضحاها، استفاق العالم في أواخر أيار الماضي على اتفاق بين روسيا والصين حول تبادل الغاز الطبيعي.لم تظهر تفاصيل الاتفاق إلى العلن، ولكن ما نشرته الصحف ووسائل الإعلام هو أنّ روسيا ستصدّرللصين، سنوياً ولمدة ثلاثين عاماً، 38 بليون متر مكعب من الغاز الطبيعي ابتداء من عام 2018 بقيمة إجمالية تفوق الـ 400 مليار دولار أميركي.
اعتبر معظم المحللين حول العالم أنّ الأزمة الأوكرانية، وما أنتجته من عقوبات غربية على روسيا، كانت عاملاً محفزاً لها للقيام بالصفقة؛ اذ جعلتها الأزمة ترضخ للأمر الواقع وترضى بالاتفاق.



ولكن، في الواقع، لم يصدر على لسان أي من المسؤولين الروس إشارة تؤكد هذه النظرية، فالمفاوضات بين البلدين حول تبادل الغاز الطبيعي لها تاريخ طويل يعود لأكثر من عشرين عاماً أدّت مؤخراً إلى انجاز الصفقة في العاصمة الصينية، ولا يمكن اختصارها بظرف سياسيّ مؤقت هو الأزمة الأوكرانية.

عشرون عاماً من المفاوضات

عام 1994، وقّعت روسيا والصين مذكّرة تفاهم حول بناء أنبوب لنقل الغاز الطبيعي بين البلدين. وفي عام 1999، طلبت روسيا 180 دولار أميركي مقابل كل 1000 متر مكعب من الغاز الطبيعي تصدّره للصين ، في حين أرادت الصين أن تدفع 165 دولار فقط. في الأعوام التالية، ارتفعت أسعار موارد الطاقة بشكل كبير، ما وقف حجر عثرة في التوصل إلى اتفاق على السعر.وفي آذار 2006 وقّع الطرفان مذكرة تفاهم أخرى تنصّ على أن تبدأ روسيا ببناء الأنابيب الغربية والشرقية بقدرة إمداد تترواح بين 600 و800 مليار متر مكعب بدءا من عام 2011 .
ولكن كلّ هذه المفاوضات لم يكن لها أثر على أرض الواقع، حتى حلول عام 2012، حين زار بوتين الصين وجرى الحديث في كانون الأول من العام نفسه عن العمل على بناء خط أنابيب غربي للغاز الطبيعي. وكانت اللحظة المفصلية في عام 2013، لدى زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى موسكو حيث وقعت شركة النفط الوطنية الصينية اتفاقاً أولياً مع شركة غازبروم الروسية للتصدير.
إذاً، لم تلح بوادرالاتفاق في الأفق بين روسيا والصين حول تبادل الغاز الطبيعي إلا منذ عام واحد تقريباً ولم تتبلور إلا في أيار 2014. فما هي الدوافع التي حثّت الدولتين أخيراً على توقيع هذا الإتفاق؟ وما الذي يناله كلّ منهما منه؟

ليس هناك من طرف رابح

«لا يمكن القول في اتفاق الغاز بين روسيا والصين عن وجود طرف رابح وآخر خاسر. فكلا الطرفين حصلا على ما يريدانه من الاتفاق، كان هناك نوع من التسوية أو الحلّ الوسط. الاتفاق ذاته معقّد ولا يمكن معرفة تفاصيله لأنه اتفاق تجاري»، بحسب ما يقول بوريس باركانوف، بروفسور العلوم السياسية في جامعة «ويست فرجينيا» الاميركية، والمتخصص في شؤون الطاقة في روسيا لـ «الأخبار».
إذاً، حصلت الصين على ما تريده من الصفقة، وروسيا أيضاً. فقد تحوّلت الصين في الأعوام الأخيرة إلى دولة قويّة استناداً إلى عدّة معايير تقاس بها قوّة الدول. فهي، اضافة إلى تعداد سكّانها الكبير وقدراتها العسكرية المتطورة، ذات اقتصاد متين ومصدّر أساسي لسلع مختلفة الى معظم دول العالم، الأمر الذي مكّنها من إثبات نفسها على الصعيد الإقليمي والدولي كقوّة عظمى. دولة مثل الصين، ذات نمو مضطرد على المستوى الصناعي والسكاني، بحاجة إلى مصادر مختلفة للطاقة وبحاجة إلى التنويع في هذه المصادر، لذا اتجهت نحو الغاز الروسي حيث لم يعد بإمكانها الإكتفاء بالغاز الطبيعي الموجود في أراضيها وتحت مياهها الاقليمية.
كذلك، فإنها، نظراً الى عدد سكانها الهائل، تخشى مشكلة التلوّث المتزايدة في مدنها وترى في الغاز الطبيعي مصدر الطاقة المثالي الذي يبعد عنها هذا الشبح.
في المقابل، روسيا بحاجة إلى سوق واسعة مثل الصين، في ظلّ علاقتها المتوترة مع الغرب والاتحاد الأوروبي والتي تتكرّس حالياً عبر العقوبات المستمرّة ضد روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية مع أنّ «العقوبات الغربية لم تشمل الغاز الروسي لذا ليست هي سبب مباشر للاتفاق، ولكنها عامل محفزّ له»، كما يضيف البروفسور باركانوف.
لذا، تجد روسيا في الصين السوق المثالي لتصدير الغاز الطبيعي الموجود في أراضيها، فهي تملك أكبر احتياطي غاز طبيعي في العالم والذي تديره شركة غازبروم، وهي كذلك أكبر مصدّر للغاز الطبيعي، وأبرز أسواقها هي أوروبا وعلى وجه التحديد دول أوروبا الشرقية .ولا تقتصر رغبة روسيا في تصدير الغاز الطبيعي إلى الصين على خوفها من تزايد التوتر مع الغرب، بل لأنّ أوروبا نفسها يتوقّع أن تقع في حالة من الركود أو حتّى التراجع في ما يتعلّق باستهلاكها للغاز الطبيعي، فمن مصلحة روسيا إذاً البحث عن سوق ذو مستقبل، وقد وجدت في الصين الشريك المثالي. باختصار، يمكن القول أن روسيا والصين قد وجدتا بعضهما، ولكلّ منهما ما يأخذه من الآخر وما يقدّمه له في المقابل، وجاءت الصفقة في التوقيت المثالي لكلا البلدين.

ما يجمع روسيا والصين أكثر مما يفرّقهما

إنّ أوّل ما يخطر في الذهن، عندما نقول عبارة «روسيا والصين» هو الوقوف في وجه الهيمنة الغربية، ومن الطبيعي أن يكون هذا العامل الرئيسي الذي يحدد معالم الشراكة الاستراتيجية التي تجمع بينهما. ويشكّل اتفاق تبادل الغاز الطبيعي «دليل تعاون بين روسيا والصين وتقارب في وجه الغرب.
الدولتان حالياً تركزان على التعاون الاقتصادي بينهما، ليس هناك منافسة ملموسة بين روسيا والصين، فما يهمّ الصين حالياً ليس المواجهة مع روسيا، بل المواجهة مع الغرب المتمثّل بحلفائه تايوان واليابان وكوريا الجنوبية على حدود الصين، وهذا ما تخشاه الصين فعلاً وما تركّز سياستها الخارجية عليه»، بحسب البروفسور باركانوف.

إذاً، الصين وروسيا تسيران معاً على خطى مواجهة
الهيمنة الغربية، كلّ حسب ما تقتضيه مصلحته.
والتعاون بين روسيا والصين لا يقتصر فقط على الناحية الاقتصادية، بل تداخله مصالح دفاعية وعسكرية أيضاً. ومع ذلك، لا يمكن القول أنّ ما يجمعهما هو حلف شبيه بحلف شمال الأطلسي مثلاً، فلن نجد الصين ترسل قواتاً إلى أوكرانيا للدفاع عن روسيا، ولا روسيا ترسل جيشها إلى حيث تحتاجه الصين كي تقاتل عنها، بل ان ما يجمعهما هو أقرب إلى شراكة استراتيجية بنتها المصلحة المشتركة.
ومن الناحية العسكرية، فإن المناورات الروسية – الصينية المشتركة كثيرة، بدءاً بعملية «التحالف» عام 2003 وصولاً إلى المناورة الأخيرة التي امتدّت بين 24 و29 آب 2014 تحت مسمى «عملية السلام»، والتي جرت على الأراضي الصينية في قاعدة «تشوريخه» في منطقة منغوليا الداخلية. أهمية هذه المناورة انّها ضمّت قوات من دول «منظمة شانغهاي للتعاون»، ووصل عدد الجنود المشاركين فيها إلى7000 جندي، تدرّبوا في أكثر قاعدة عسكريّة صينية متطوّرة وتحت إشراف ضبّاط صينييين للمرة الأولى والتقى خلالها، للمرة الأولى أيضاً، قادة جيوش دول المنظمة الستّ.
بين دولتين كبيرتين مثل روسيا والصين، لا يمكن أن تخلو العلاقة من المنافسة، على الأقلّ ليس في الوقت الحالي، ولكن بعد أعوام من اليوم. أمّا في المدى المنظور، فما يجمعهما هو أكثر ممّا يفرقهما، والدلائل على ذلك ملموسة وكثيرة، وما يحفزّ هذا التقارب هو الضغط الغربي على كلتا الدولتين، فلا مانع فعليّ من عدم تطوّر هذه العلاقة لتصل إلى حلف مكتمل العناصر ما لم يتعارض ذلك مع مصالحهما الداخلية.