تتجه أنظار الكولومبيين اليوم إلى كوبا لمعرفة نتائج محادثات السلام التي تعقد بين الحكومة الكولومبية والقوات المسلحة الثورية الكولومبية «فارك» بهدف إنهاء الحرب الأهلية التي استمرت 50 عاماً بين الطرفين.

ويجري الرئيس الكولومبي خوان مانويل سانتوس اليوم جولة جديدة من محادثات السلام مع زعيم «فارك» رودريغو اتشيفيري المعروف باسم «تيموتشينكو» والتي كانت أنطلقت في 27 آب 2012، وترمي إلى إنهاء أقدم نزاع مسلح في أميركا اللاتينية أدى خلال نصف قرن إلى سقوط حوالى 600 ألف قتيل وفقدان 15 ألفاً آخرين ونزوح أربعة ملايين، بحسب أرقام رسمية.
وبالرغم من أن المحاولات استمرّت بين الطرفين لأكثر من سنتين، لم تصل إلى نتيجة حتى الآن، ولعل تاريخ الصراع الذي استمر منذ عام 1964 (تاريخ تأسيس حركة الفارك) وقسوته هو ما يعيق الوصول إلى نتيجة حتى الآن.
وكانت الحكومة الكولومبية توصلت مع «فارك» إلى اتفاق بشأن مشاركة الحركة المسلحة في الحياة السياسية بعد إبرام اتفاق سلام شامل، إضافة إلى الاتفاق على بند التنمية الريفية، وهو موضوع يعتبر أحد الأسباب الرئيسية لاندلاع «حركة التمرد». يتبقى أمام الطرفين الاتفاق على البنود الثلاثة المتبقية من النقاط الخمسة على جدول أعمال المفاوضات، وهي مكافحة تهريب المخدرات وإلقاء السلاح ودفع تعويضات لضحايا النزاع المستمر منذ نصف قرن.
وكان الصراع بدأ بين كولومبيا منذ عام 1950، عندما هرب العديد من الثوار الكولومبيين الليبيرليين والشيوعيين من اعتداءات العسكريين التابعين للسلطات الحكومية حينها سيراً على الأقدام إلى المناطق الشرقية غير المأهولة، حيث أعلنوا إقامة دولة مستقلة لهم بعيداً عن «ظلم الطبقة الحاكمة البرجوازية» على حدّ تعبيرهم. إلا أن السلطات الكولومبية لم تكن لتترك تلك الدولة وشأنها، عندها علم الثوار أن لا مفرّ من الحرب لنيل حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية. وفي تموز 1964 أعلن عن إنشاء جبهة مسلّحة لمحاربة الجيش الكولومبي، وفي عام 1966 أعلنت القوات المسلحة الثورية الكولومبية عن نفسها، وأطلقت على نفسها اسم «فارك»، أول جبهة شعبية في تاريخ كولومبيا.
ساهم الصراع بين «فارك» والجيش الكولومبي في زيادة نسبة الفقر تحت حكم الجبهة الوطنية الحاكمة حتى وصلت إلى 50% بحسب الاحصاءات المحلية الكولومبية عام 1975، وانتشرت تجارة المخدرات، ما دفع الكثيرين إلى اللجوء إلى المناطق الواقعة تحت سيطرة «فارك».
وعلى الرغم من ارتفاع عدد سكان المناطق التابعة لـ«الفارك»، إلا أن عائدات الضرائب المفروضة على سكان المنطقة لم تمكن المنظمة من التسلّح بمعدات متطورة، بل مكّنتها من تأمين الخدمات الاجتماعية والاقتصادية مثل الطبابة، التعليم، والبرامج الثقافية والتربوية للسكان. إلا أن ذلك لم يكن يكفي «فارك» لتأمين احتياجاتها، فلجأت إلى عمليات الخطف ضد الموالين للحكومة الكولومبية وطلب الفدية لسدّ حاجاتها.
استمر الوضع على هذه الحال حتى عام 1985 حيث تم الاتفاق على وقف إطلاق النار بين «فارك» والجيش في ظل حكم الرئيس بيليساريو بيتانكور، ممثل حزب الاتحاد الوطني، بموجب اتفاقة «لا أوريبي».
بيد أن هذه الخطوة لم تلق تأييداً من الكثييرين في كولومبيا، هذا إضافة إلى أن انتخاب فيرجيليو باركو رئيساً في عام 1986 وضع حدّاً للمفاوضات ونسف قرار وقف إطلاق النار. عقب ذلك شهدت البلاد موجة عنف استهدفت حزب الاتحاد الوطني الذي اغتيل ما يقارب 200 من قياديه في عام 1988. ولاحقاً وصل عدد القياديين الذين اغتيلوا من الحزب إلى 1000 خلال خمس سنوات.
والجدير ذكره أن القانون 48 الذي صدر عام 1968 في كولومبيا نص على أنه «يسمح للجيش بتقديم الأسلحة إلى مجموعات من المدنيين تسمى «وحدات الدفاع عن النفس»، حتى يتمكنوا من النضال ضد الجماعات المسلحة التي تعمل في مناطق معينة من الفلاحين».
تسلح «فارك» وانتشار تجارة المخدرات في كولومبيا كانا عذرين كافيين للولايات المتحدة الأميركية للتدخل في شؤون الجمهورية الكولومبية تحت عنوان «الحرب على تجارة المخدّرات». ففي عام 1990، أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش مبادرة «الأنديز» التي منحت من خلالها واشنطن 2،2 مليار دولار كمساعدات اقتصادية وعسكرية لكولومبيا وبيرو وبوليفيا. وتم تخصيص ثلثي المساعدات لوحدات الجيش والشرطة كجزء من استراتيجية الولايات المتحدة لخوض الحرب على المخدرات. واللافت في الامر أن واشنطن اشترطت على الحكومات قبول المساعدات العسكرية للحصول على الجزء الاقتصادي من المساعدات. وشيئاً فشيئاً، أصبحت الولايات المتحدة تشارك في عمليات مكافحة ما سمّته «التمرد» في كولومبيا. وفي العام نفسه، أصرّت الولايات المتحدة، من أجل «مساعدة الجيش الكولومبي على إعادة تنظيم شبكة مخابراته»، على العمل لإقناع الحكومة الكولومبية بتشكيل فريق من أربعة عشر عضواً، على أن يتضمن ممثلين عن المجموعة العسكرية في السفارة الأميركية، القيادة الجنوبية الأميركية، وكالة استخبارات الدفاع، ووكالة الاستخبارات المركزية، وبالفعل أصدرت وزارة الدفاع الكولومبية قرار بتشكيل هذا الفريق في عام 1991.
وبالرغم من ترويج الولايات المتحدة لهدفها من مبادرة «الأنديز» بأنه «حرب على المخدرات»، أشار تقرير لمنظمة «هيومن رايتس ووتش» إلى أن «على عكس الأهداف المعلنة لاستراتيجية الأنديز، لا يوجد ذكر للمخدرات في الصفحات الست عشرة من المرسوم الذي يصوغ استراتيجية مساعدة الجيش الكولومبي في حرب مكافحة المتمردين».
لا يمكن لأحد أن ينكر أن لمبادرة «الأنديز» دوراً لا يستهان به في زيادة حدّة الصراع العسكري بين «فارك» والجيش الكولومبي، إلاّ أن سنوات الحرب الطويلة أثبتت أن الحل لن يكون الاّ بمفاوضات بين «فارك» والحكومة الكولومبية، تضمن إصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية لإنهاء الصراع الذي دام خمسة عقود من الزمن.