إذا كان بيع القمصان هو معيار الشهرة، فهناك أرجنتينيان يفوقان في شهرتهما أي ثنائي من أي بلد كان. ليونيل ميسي - والرقم عشرة بألوانه المختلفة - وصورة إرنستو غيفارا التي أصبحت جزءا من الثقافة الشعبية وسوق الموضة الاستهلاكية. البارز في هذا الثنائي هو أن كليهما كسب شهرته خارج حدود الأرجنتين، وأن الاثنين ألهما العالم الخارجي في صنيعهما أكثر ممّا ألهما سكان بلدهما الأم.
في كرة القدم لا يحتاج تفوق "الإله" دييغو ارماندو مارادونا على ليونيل ميسي إلى تفسير. الدييغو هو حالة شعبية أكبر بكثير من الملعب. واكب صعوده الكروي مرحلة التحرر من الديكتاتورية العسكرية المدعومة من واشنطن، وكان رفع مارادونا لكأس العالم عام ١٩٨٦ بمثابة تتويج لإنجاز شعبي تحرري بعدما كان العسكر قد استثمروا كأس الأرجنتين الأولى في دعايتهم ولطخوها بلا وازع.
الديكتاتورية العسكرية اليمينية كانت قد وصلت الى الحكم بالانقلاب على ايسابيل بيرون عام ١٩٧٦، وكانت ايسابيليتا - كما كانت تعرف - وهي أرملة خوان بيرون قد وصلت إلى سدّة الرئاسة بعد وفاة زوجها عام ١٩٧٤. بيرون بدوره يفوق التشي غيفارا شعبية وتأثيراً في تكوين الهوية السياسية للارجنتين.
عندما انطلق غيفارا الثوري، ابن مدينة روساريو، في جولته الشهيرة التي اكتشف فيها الظلم المستشري في البلاد المجاورة، كانت شراكة خوان بيرون وايفا دوارتي (زوجة بيرون في حينه، التي جسّدتها مادونا في الفيلم الموسيقي الذي أنتجته هوليوود عن حياتها) تؤسس لشراكة وطنية في الأرجنتين، حاضنة للجميع في صناعة السياسة والثقافة. الحقبة البيرونية في أواسط القرن الماضي شهدت دخول المرأة الحياة العامة، كما شهدت جهوداً لإشراك المهمشين في الدولة. حُدّدت مسؤولية الدولة البيرونية بإيصال العلم والاستشفاء وحقوق العمال إلى الجميع، وأدى دور الرقيب على رأس المال من دون أن تعاديه. يصف البيرونيون سياستهم باليسارية المفصّلة على مقاسهم. فالنظام السياسي مبني على ثلاث ركائز، هي العدالة الاجتماعية والاستقلال الاقتصادي والسيادة الوطنية، مع الرفض التام للإمبريالية، والاصطفاف الى جانب حركة عدم الانحياز. البيرونيون فازوا في ٩ من أصل ١١ انتخابات رئاسيّة حرّة في الأرجنتين، منذ وصول خوان بيرون الى الحكم للمرة الأولى عام ١٩٤٦.
لكن لعَل أهم إنجاز لهذه الدولة كان في الاستثمار بصناعة الثقافة. تدعم الدولة الأرجنتينية نوادي ثقافية في كافة أنحاء البلاد، وفي جميع أحياء المدن الكبرى. لم تتحول هذه النوادي إلى أمكنة للتجنيد والتكوين الأيديولوجي، بل بقيت مساحات حرة لدخول سكان الأحياء في صناعة الثقافة المحلية، وبطبيعة الحال، الحياة السياسية. أنتج استثمار الدولة بالوعي الشعبي وثقتها فيه لامركزية في صناعة الثقافة والقرار السياسي. عندما ألقت رئيسة الأرجنتين البيرونية، كريستينا فرنانديز، خطابها في الجمعية العمومية للأمم المتحدة الشهر الماضي، لم تكن تقرأ من ورقة، بل كانت تعبر عن ثقافة كاملة نشأت معها في الأحياء.