لم يمض عقد كامل بعد على إطلاق أول هاتف خلوي من شركة «آبل»، رغم ذلك تحول هذا الجهاز إلى رمز تاريخي للعلاقات الأميركية الصينية. «صُمّم في كاليفورنيا... صُنع في الصين»، تنويه يشفي غليل أي مستهلك تواق إلى التكنولوجيا.تُفسّر العلاقة بين أكبر اقتصادين على هذه المعمورة ـ عبر هذا الجهاز ـ غالبية مظاهر العولمة، خيباتها وبعض نجاحاتها. علاقة يبدو أنها صامدة لا تلوي ـ مثلما «يطعج» iPhone6 ـ أمام تحديات القرصنة، التجسس والتنافس على الأسواق.

في قمّة مجموعة التعاون الاقتصادي بين آسيا والمحيط الهادئ (APEC)، التي استضافها رئيس الوزراء الصيني، زي جينغبينغ، هذا الأسبوع، ظهرت هذه الثنائية في أهمّ مراحلها. فقد أُعلن أن الأخير توصل والرئيس الأميركي باراك أوباما إلى اتفاق إطار ممتد حتى عام 2030، يقضي بأن يخفض البلدان انبعاثاتهما من الغازات الدفيئة، وذلك في خطوة تاريخية ومفاجئة.

حتى حلول ذلك العام، قد تبدّل الولايات المتحدة أربعة رؤساء مختلفين، كل واحد بأجندة طاقوية أو صناعية قد تكون متضاربة مع سلفه. كذلك قد تكتشف هيئات التخطيط المركزي الصينية أن الاستغناء الأعمى عن معامل الفحم لتوليد الطاقة ليس خطوة محسوبة على مقياس النشاط الاقتصادي والتوسع العالمي.
ولكن مهما يكن مصير الاتفاق الموقع في بكين، دلالته الأساسية هو أنه لم يشمل روسيا.
ثلث احتياطي الصين موظّف في السندات الأميركية وعليها حماية استثماراتها

لا شك أن كلّ زعيم من الشخصيات الـ25 التي حضرت القمة، في العاصمة الصينية كان يصبو إلى تحقيق نقاط في الإطار الذي يناسبه. غير أن الأضواء كلها كانت مسلطةً على الثلاثي الأميركي ـ الصيني ـ الروسي.
حالياً، تعاني روسيا من وطأة العقوبات الغربية المفروضة عليها. رغم التقارب في العلاقات مع ألمانيا، لم يعد بمقدورها التعويل كلياً على الارتهان الأوروبي على غازها الطبيعي لكي تضمن نفوذها. لذا، ليس هناك من خيار أوضح من تعزيز التعاون الاقتصادي مع الصين.
من جهة أخرى، فإن السياسة الخارجية الأميركية تسعى إلى الخروج من الهوة التي وقعت فيها عبر تجاهل آسيا، وذلك على الرغم من أن أجندة الرئيس باراك أوباما برمتها خلال ولايته الثانية بدت مكرّسةً للدور في القارة الكبرى ولعلاقة واشنطن مع اللاعب الأكبر هناك.
انطلاقاً من هذا الوضع، يُمكن فهم حجم الاتفاق حول الانبعاثات بعدما كان البلدان يتصادمان مثل ثورين حول طاولة المفاوضات الخاصة بتغير المناخ. الرابح هنا هو اللاعب الصيني، كونه التزم بهدف عليه أن يُقدّم عاجلاً أو آجلاً خطوة باتجاهه، غير أنه في الوقت نفسه لم يُقدم على تنازلات جوهرية في ما خص سياساته الطاقوية. هذا الانتصار لم يكن الوحيد الذي حققه المضيف. فقد وقّع زي جينغبينغ، مع ضيفه القادم من الكرملين، اتفاقاً أولياً للشراكة الطاقوية الاستراتيجية بقيمة تقارب 400 مليار دولار ـ وهي قيمة اتفاق آخر حول الطاقوية وقّعه الطرفان منذ فترة ـ تزوّد بموجبه روسيا شريكتها الشرقية بغاز طبيعي، بمعدّل 30 مليار متر مكعب سنوياً، خلال العقود الثلاثة المقبلة.
هكذا، ستكون روسيا مسؤولة عن تأمين قرابة خُمس احتياجات الصين من الغاز بنهاية هذا العقد. ولكنها في المقابل، وقّعت الاتفاق بشروطه الصينية، كونها بأمسّ الحاجة إلى مقوّمات العملاق الآسيوي في امتصاص إنتاجها الغني لفترات مستدامة.
يفيد التحليل بأن ما حدث في بكين، يؤكّد الريادة الصينية الأميركية للاقتصاد العالمي بل النظام الكوني برمته، فيما روسيا بلد ضعيف هيكلياً يعتمد على استخراج الموارد الطبيعية وتزويدها للبلدان التي لديها مقومات الإدارة والقيادة. بلدٌ يضمن وجوده على الساحة الدولية عبر الالتصاق بجاره الصيني العملاق.
ولكن من قال إن النفوذ يقتصر على الموارد والسيولة والفوائض. هناك عوامل كثيرة أخرى، أبرزها في المجالين العسكري والاجتماعي يُمكن أن يستغلها بلد ما لتعزيز وجوده وتوسيع سيطرته. وما يحدث في شرق أوكرانيا هو خير دليل على هذا الأمر. كذلك فإن الطلعات الجوية والبحرية التي تنفذها الوحدات العسكرية الروسية في الشرق والغرب، تُعدّ رسائل واضحة مفادها أن موسكو لن تقف مكتوفة الأيدي عسكرياً إزاء العقوبات التي تُفرض عليها، وسياسة الغرب التي تتدخل بمصالحها في مجالها الحيوي الإقليمي.
صحيح أن سعر النفط سقط أخيراً إلى ما دون 80 دولاراً للبرميل، أي أدنى مستوى من أربع سنوات، وصحيح أن روسيا ـ ومعها بالدرجة الأولى إيران ـ تتأذى من هكذا تراجع، إلا أن الأسلحة المتوفرة كثيرة وقد يلجأ إليها المتضررون في لحظات الإحراج أو التحدي.
هناك قضية أخرى، وهي أن الصين، مهما بلغت مصالحها المشتركة مع الولايات المتحدة، فإنها تبقى مهتمة بكبح نفوذ الدولار عبر طرح أقرب البدائل المتاحة، أهمها طرح عملتها كبديل قائم من العملة الخضراء. وفي الوقت نفسه، يجب ألا ننسى أن ثلث احتياطي الصين من عملاتها الأجنبية ـ البالغة 4 تريليونات دولار ـ موظّف في سندات الخزينة الأميركية، لذا فإن مصلحة الصين تقضي باحتواء المخاطر النقدية التي قد تحيط استثماراتها، وفي الوقت نفسه السعي إلى تحقيق واقع آخر يعكس نفوذها الجديد.
هذه المعطيات تفسّر التوازن الذي تطمح إليه بكين من خلالها لعبتها المزدوجة مع الشرق والغرب.