قبل نحو شهر، عزّز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان دور القوات البرية خارجياً، حين وسّع البرلمان التفويض الممنوح للجيش للتدخل الخارجي، وذلك بعدما قوّض دوره داخل البلاد، عبر تعديل المادة 35 من الدستور عام 2013، ما أبعد الجيش نهائياً عن المشهد السياسي التركي. في هذا الوقت، شنّ أردوغان حملة اعتقالات حصدت كبار الضباط، ولا سيما من القوى البحرية، باسم التورط في المحاولات الانقلابية ضده، وبتهمة التجسس.

إنه هاجس الانقلاب الدائم. غير أن تجربة «30 يونيو» المصرية، عززت القلق لدى أردوغان، وشجعته على اتخاذ قرارالتعديل، إذ أوحت الأحداث المصرية له بإمكانية تكرار هذا السيناريو في تركيا. وارتفع منسوب الهواجس من «المؤامرة» أيضاً، بعد أحداث حديقة غزي في ميدان تقسيم، وهو الحدث الذي مثّل مفصلاً في العلاقة المتوترة بين الحزب الحاكم وجماعة الداعية فتح الله غولن. وفيما كان أردوغان يتحدّث عن «مؤامرة دولية لإدخال تركيا في حالة من الفوضى والفراغ»، بعد قمعه التظاهرات بالقوة، جوبه بقضية الفساد الشهيرة، بعدما اعتقل جهاز الجريمة المالية العشرات من رجال الأعمال المحسوبين على حزب «العدالة والتنمية»، للتحقيق معهم في اتهامات فساد مالي.
اتهم أردوغان الخارج بالتآمر، واعتبر جماعة غولن دولة داخل الدولة، وأنها كانت تستعد خلال سنوات التحالف مع حكومته لهذا العمل، عبر جمع الأدلة والوثائق من طريق رجالها في أجهزة الشرطة والاستخبارات لاستخدامها ضدّه وضربه وقت الحاجة. لكنه بعد تولّي الرئاسة، سعى مع حزبه الحاكم إلى إغلاق ملف التحقيق في قضية الفساد والرشوة التي كُشف عنها يوم 17 كانون الأول الماضي، فلم يعد اليوم أي متهم مدان في فضيحة الفساد. كذلك، تتواصل عملية «تطهير» الدولة من جماعة غولن عبر طرد ضباط من الشرطة وسجن بعضهم بتهمة التجسس، إضافةً إلى تبنّي إصلاحات في بنية معهد الشرطة نفسه.
وفي وقتٍ تتجه فيه الأنظار إلى الملفات التركية الساخنة مثل «التحالف الدولي» في مواجهة تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش)، وتحديداً إلى الموقف التركي من الأزمة السورية، تستمر الحرب المعلنة والمستعرة بين الحكومة التركية وجماعة غولن أو ما يسمّيه أردوغان «الكيان الموازي». أعطيت إشارات واضحة إلى قدرة الحكومة على تسريع الحملة ضد الجماعة باعتبارها «خطراً على الأمن القومي التركي»، بعد وضع اليد على مجلس القضاء واتهامها بالتنصت على المؤسسات الحكومية ومسؤولين في البلاد.
خشي أردوغان من تكرار تجربة «30 يونيو» المصرية في تركيا



تريد أنقرة منع «الكردستاني» من استغلال السلام للفوز في الانتخابات النيابية

وقد أفاد بيان اجتماع مجلس الأمن القومي التركي الأخير في 30 تشرين الأول الماضي، بأن جماعة غولن، تمثّل تهديداً داخلياً بصفتها «كياناً موازياً»، لكن رئيس الأركان نجدت أوزيل أكد أنه «لا يمكن إقصاء الجنود والضباط الذين يدَّعى انتسابهم إلى حركة الخدمة دون دليل ملموس». هي حملة تطهير يخوضها أردوغان للتخلص من جماعة «الخدمة» (غولن) وضرب مؤسساتها التربوية والمالية وأهمها بنك «آسيا». لكنه في غيّه هذا، كالذي يبحث عن إبرة في كومة قش، ولا سيما أن جماعة الخدمة ليست حالة حديثة، بل جزء من النسيج الاجتماعي الديني والتربوي في تركيا. لكن أردوغان يرمي إلى التهديد وقطع مصدر عيش أفراد واعتقال البعض بتهم خرق القوانين وإرهاب الجماعة.
في الوقت عينه، تتأرجح مفاوضات السلام الجارية بين الحكومة التركية وحزب «العمال الكردستاني»، بعد الضغوط التي قامت بها الحكومة التركية على زعيم الحزب الكردي عبد الله أوجلان بواسطة رئيس الاستخبارات حقان فيدان الذي نقل له عدم صلاحية خريطة طريق عملية السلام بسبب الأوضاع السياسية، وذلك بعد تنديد أردوغان بحزب «الشعوب الديمقراطي» واتهامه بتحريض الأكراد وقتل 40 مواطناً تركياً، في أعقاب تحرّك الأكراد على خلفية المعارك في عين العرب (كوباني).
كذلك، رأى القوميون الأتراك أن إعلان خريطة الطريق «استجابةً لضغوط العمال الكردستاني»، بالإضافة إلى سماح الحكومة التركية لمقاتلين من «البيشمركة» و«الجيش الحر» بالعبور إلى عين العرب، ما دفع نواب «العدالة والتنمية» إلى الاعتراض على التوقيت وتسجيل موقف «لمراعاة الشعور القومي التركي». ورغم ذلك تستمر المحادثات بين الحكومة و«العمال الكردستاني»، بعد الإشارة إلى إمكانية تحقيق السلام خلال الأشهر المقبلة في حال التزام الطرفين ببنود خريطة الطريق، أي قبل الانتخابات البرلمانية.
لكن نقاشاً يدور في كواليس أنقرة يشير إلى إمكانية إجراء انتخابات مبكرة بسبب الخوف من حدوث انكماش اقتصادي، كذلك لا أحد يتوقع أن تقدِم الحكومة على الدفع بمفاوضات السلام مع الأكراد قبل الانتخابات البرلمانية. ويتهم حزب «العمال الكردستاني» الحكومة التركية بمحاولة تأخير عملية السلام لما بعد الانتخابات لمنعه الحزب من الاستفادة من نتائج السلام الذي سيعني عودته إلى الحياة السياسية. أما الحكومة، فهي تريد أيضاً أن تضمن أصوات القوميين الأتراك من أجل الفوز بـ330 مقعداً برلمانياً، ما سيؤمن لها إمكانية تغيير الدستور وإقرار نظام رئاسي يعزز سلطة أردوغان.




«الحصار» الخارجي

تُستبعد تركيا اليوم عن ملفات عدّة في المنطقة لأسباب كثيرة، أهمُّها عدم استعدادها للمشاركة في «التحالف» ضد «داعش»، مثلما توقعت واشنطن. في هذا الوقت، تقترب إيران من الولايات المتحدة، وتبرم صفقات جديدة مع روسيا في قطاع الطاقة النووية، التي ستعزز العلاقات السياسية والعسكرية بين الحليفين. من جهة أخرى، توطّد واشنطن علاقتها مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من أجل البحث في ما آلت اليه المحادثات حول الدولة الفلسطينية، بعدما فتح السيسي علاقات مع اليونان وقبرص اليونانية من أجل الطاقة، كذلك أجرت قبرص اليونانية مناورات بحرية مشتركة مع روسيا. أما السعودية ومصر، فهما يتجهان نحو إقامة جبهة ضد «الإخوان المسلمين» بدعمٍ من معظم الدول العربية، في وقتٍ بات فيه بقاء الرئيس السوري بشار الأسد في الحكم سمة المرحلة الحالية، وتضفي واشنطن الشرعية على المجموعات الكردية في سوريا التي تعتبرها أنقرة «إرهابية».
هذه التطورات تجعل تركيا محاصرة، وهي تقلقها إلى حدٍّ كبير، حيث من المؤكد أن التعاون الأميركي ـ الإيراني سيعطي طهران المزيد من النفوذ الإقليمي، وبالتالي سيقوي حلفاءها ويقلّص نفوذ أنقرة التي فقدت حبل الود مع معظم الدول الخليجية. لقد أضاعت أنقرة فرصة القيام بدور الوسيط في مشاكل الشرق الأوسط، حيث أصبحت جزءاً كبيراً من هذه المشاكل.