برشتينا | كلّ من يدخل كوسوفو عبر مطار صربيا الخاص أو من حدودها البرّية مع جمهورية الجبل الأسود، ألبانيا ومقدونيا، لا يُسمح له بالدخول إلى صربيا مجدداً، على اعتبار أنه دخل الإقليم (التابع لها بنظرها) من دون الموافقة الصربية. أما العكس فهو صحيح. يمكن لأي مواطن صربي أو أجنبي العبور من صربيا إلى الاقليم الكوسوفي من دون أية مشكلة.كانت حرب عام ١٩٩٩ مفصلاً تاريخياً في الصراع في كوسوفو بين الصرب والألبان. بدأ التوتر في كوسوفو إثر قمع القوات الصربية للانفصاليين الالبان، الذين أنشأوا آنذاك ما كان يسمى«جيش التحرير الكوسوفي» لتحرير كوسوفو من القوات الصربية تمهيداً لانفصالهم عن الدولة المركزية.

حسم الصراع في الإقليم إثر تدخل حلف «شمال الأطلسي» لمصلحة السكان ذوي الإثنية الألبانية، عبر ضرب القوات الصربية في الإقليم، واستكمال الضربات الجوية التي وصل بعضها إلى العاصمة بلغراد. النتيجة المباشرة لتدخل قوات «الأطلسي» كانت انفصال كوسوفو عن صربيا، حيث أعلنت كوسوفو استقلالها رسمياً عام ٢٠٠٨ بمباركة الولايات المتحدة الأميركية ومعظم دول الاتحاد الأوروبي.
كوسوفو وصربيا كلتاهما، بالإضافة إلى كرواتيا، البوسنة، سلوفينيا، جمهورية الجبل الأسود ومقدونيا كانت تكوّن دولة يوغوسلافيا قبل عام ١٩٩٠، وكان آخر من وحّدها الزعيم الراحل تيتو. ومن أبرز إنجازات الزعيم اليوغوسلافي، بالإضافة إلى الحفاظ على وحدة دولته في ظلّ التنوع الإثني والديني، تأسيس وقيادة محور دول «عدم الانحياز» أثناء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. كان لافتاً في يوغوسلافيا، أنها اعتمدت بقيادة تيتو نموذجاً شيوعياً مغايراً لنموذج موسكو في ذلك الوقت. فقد سعى تيتو للحفاظ على علاقة جيدة مع الشرق والغرب في آن واحد، لمصلحة بلاده، قبل أن تبدأ يوغوسلافيا بالتفكّك بعد وفاة تيتو عام ١٩٨٠، وكانت الضربة القاضية مع انتهاء الحرب الباردة حيث بدأت كل من الدول المذكورة إعلان انفصالها واستقلالها تباعاً.
أثناء التجول في مدن كوسوفو، تجد ارتياحاً لدى سكان الإقليم ذوي الإثنية الألبانية، لوجود وجوه جديدة في المدن والقرى. وقد لقيت وزملائي الجامعيين ترحيباً عارماً، وخصوصاً عند علمهم بأننا آتون من مدينة نيويورك التي جمعنا تحصيل الدراسات العليا فيها.
كنا وفداً جامعياً متعدّد الجنسيات، ومن بيننا طلاب أميركيون. حينها، لفتني إقدام بعض السكان على شكر الزملاء الأميركيين «على إنقاذهم أثناء الحرب». فبالنسبة لهؤلاء، أميركا هي من «حرّرهم من الاحتلال الصربي»، وهي نموذج للحرية والتحرر.
الارتياح الألباني في كوسوفو، لن تجده عند الصرب الذين يقطن معظمهم في مدينة ميتروفيسيا القريبة من الحدود الصربية في شمال كوسوفو. يفصل نهر إيبار في مدينة ميتروفيسيا سكان شمال المدينة الصرب عن سكان جنوب المدينة الألبان. وتتمركز قوات «الأطلسي» في القسم الجنوبي من المدينة «لمنع الصرب من السيطرة على المدينة الكوسوفية وطرد الألبان منها». ومن اللافت أيضاً أن سكان هذه المدينة في القسم الشمالي ما زالوا يرفضون الاعتراف بانضمامهم للدولة الكوسوفية، وقد منعوا إنشاء حدود أو معبر مع الدولة الصربية شمال المدينة. وعملياً ليس هناك من حدود مرسومة ومحدّدة بين صربيا وكوسوفو في القسم المكتظ بالسكان الصربيين في القسم الشمالي من الإقليم.
جسرٌ عريض يربط القسم الشمالي من المدينة بالقسم الجنوبي، وقد أغلق بالسواتر الترابية منعاً لعبور المركبات بين قسمي المدينة المنقسمة إثنياً. وبعدما تمكنّا من عبور الجسر سيراً على الأقدام، وأثناء التجول في القسم الصربي من المدينة، تجد على الجدران رسوما وغرافيتي تدين حلف «شمال الأطلسي». رسوم أخرى تؤكد صربيّة إقليم كوسوفو، عبر مقارنتها بروسيّة شبه جزيرة القرم. وأكثر من ذلك، عندما لاحظ بعض الشباب الصربي وجود أميركيين في الوفد المتجوّل أبدوا عدم ترحيبهم، على عكس الألبان. فبدأوا بالتحدث باللغة الصربية والاستهزاء وعدم الترحيب بوجود أميركيين في مدينتهم. فما كان علينا كوفد متعدد الجنسيات إلا الرجوع الى القسم الألباني من المدينة لعدم شعور الطلاب الأميركيين بالارتياح في تلك المنطقة.
يمثل الألبان في كوسوفو أكثر من ٩٥٪ من عدد سكان الإقليم. ومعظمهم من أتباع الديانة الإسلامية الوافدين إلى دول البلقان في عهد الدولة العثمانية.

بالنسبة إلى الألبان في كوسوفو فإن أميركا هي التي «حرّرتهم من الاحتلال الصربي»
ويمثل المسلمون في كوسوفو أكثر من ٩٣٪ من سكان الإقليم، ويتوزع الباقون على المذاهب المسيحية الثلاث: البروتستانت، الكاثوليكية، والأرثوذكسية. كل ما هو أرثوذكسي في كوسوفو يعني على نحو مباشر أنه صربي. كذلك، فإن العقيدة الكاثوليكية في صربيا مكون أساسي من مكونات القومية الصربية. لذلك بعد حرب عام ١٩٩٩ نشأ عند الألبان ميول لاعتبار الديانة الاسلامية جزءاً من مقومات القومية الألبانية كردّ فعل على النظرية الصربية. وتجدر الإشارة، إلى أن الصراع في البلقان لم يكن يوماً صراعاً دينياً، بل هو صراع إثني صرف. وبالدليل. ففي حرب عام ١٩٩٩، رفض تنظيم «جيش التحرير الكوسوفي» (المسلم) انضمام جهاديين إسلاميين من دول عدة إلى جانبهم في حربهم ضد الصرب. كذلك يجب الاشارة إلى أن الإسلام في كوسوفو لا يشبه الإسلام في أي منطقة ثانية في العالم. وقد عرّف رئيس الأئمة في كوسوفو صبري بنغورا النموذج الاسلامي في كوسوفو بالاسلام المخفّف «light Islam».
تواجه الدولة الحديثة الولادة تحديات عدة أبرزها: السعي إلى اعتراف دولي أوسع باستقلالها، حيث اعترف به حتى اليوم ١١٠ دول، بما فيها دول عربية كالسعودية، قطر، ليبيا، ومصر، كما يمثل بناء اقتصاد قوي ومتوازن عقدة كبيرة للحكومة في ظلّ وجود٤٠٪ معدّل بطالة.
ختاماً، يبدي الألبان في كوسوفو ارتياحهم للدعم الغربي لاستقلال الاقليم عن صربيا. ولا يبدي هؤلاء انزعاجهم من الوصاية الأميركية شبه المباشرة على الدولة، برغم إعلان استقلالها نظرياً. ما يطرح سؤالاً عن إمكانية تحقيق استقلال فعلي في كوسوفو وبناء دولة ذات سيادة في ظل التحديات المذكورة، بالإضافة إلى صعود الإسلام السياسي ووصوله إلى البلقان؟ إن الدولة الحديثة لا يبدو أن لديها المناعة الكافية لصدّ تأثير المال السياسي الذي ينشر الفكر الجهادي التكفيري لدى الشبان الكوسوفيين. فهل ستدفع ثمن انفصالها عن صربيا، أم أن الغرب سيكون «المنقذ» من جديد؟