برشتينا | إذا سألت أي مواطن أو مواطنة من برشتينا (العاصمة الحالية لكوسوفو) قبل عام ١٩٩٩: من أنت؟، (لجهة الانتماء القومي والوطني)، فإنه كان يجيب: ألباني أو ألبانية. هذا الشعور بالانتماء كان شائعاً جداً ولا يزال موجوداً، أما الهوية الدينية فهي تأتي بالدرجة الثانية أو الثالثة. لكن بعد مرور خمسة عشر عاماً على الحرب، إذا سألت بعض رجال الدين المسلمين في كوسوفو، السؤال نفسه، فسيجيبونك بأنهم مسلمون أولاً، وثانياً ألبانيون.
يقول رئيس الأئمة في كوسوفو، صبري بنغورا، إن الهوية القومية عند الألبان تعتبر أقوى من الهوية الدينية، «والسبب أن الألبان كانوا يقبعون تحت الاحتلال الصربي، وهذا ساعد في تقوية الهوية الألبانية على حساب الهوية الدينية». ومن موقعه بصفته عالم دين، يرى بنغورا، في حديثٍ لـ«الأخبار»، أن «الهوية الإسلامية تأتي قبل الهويّة القومية»، لكنه لم يمتنع عن الردّ على أي من الأسئلة، بما فيها المتعلقة بـ«الإسلام السياسي»، وصعود «التطرّف الإسلامي» في كوسوفو (لنا وقفة مع هذا الموضوع في الحلقة المقبلة).
للتحقق أكثر من نظرة رجال الدين المسلمين إلى الهوية الإسلامية، كان لا بدّ من طرح الأسئلة نفسها المتعلقة بمسألة الهوية على مشايخ آخرين، منهم المنسّق في المركز الإسلامي في كوسوفو، دريلون ياها، الذي يرى أن «المسلمين في كل العالم بالنسبة إلى الدين الإسلامي أمة واحدة»، مضيفاً أن «هناك هوية قومية إسلامية، وإن لم تكن موجودة وجب إيجادها».
وقد يبدو أن الموقف من الهوية الإسلامية لدى معظم رجال الدين في العالم الإسلامي قد يكون مشابهاً، فليس الأمر مقتصراً على استنتاج أن فكرة «الهوية الإسلامية» محسوبة على علماء الدين في كوسوفو فقط، إذ إن الهوية هنا متعلقة بالعقيدة الاسلامية، وبكيفية تفسير العلماء لها في كل العالم الإسلامي.
للتوسع في مسألة هوية سكان كوسوفو التي انفصلت عن صربيا عام 2008، يمكن طرح السؤال على بعض المسؤولين الرسميين. فيقول نائب وزير خارجية كوسوفو والقيادي في الحزب «الكوسوفي الديموقراطي»، بيتريت سلامة، لـ«الأخبار»، إن «هوية قومية جديدة نشأت بعد الحرب الأخيرة، وهي الهوية الكوسوفية المنفصلة عن الهوية الألبانية»، معتبراً أن الهوية الألبانية «مفهومٌ واسع جداً».
ليس مألوفاً أن يعّرف السكان عن انتمائهم بـ«الكوسوفيين»، ولكن الحرب خلقت هويةً وانتماءً جديدين. وخلال الحديث مع بعض السكان المحليين، نجد أن هناك تقبّلاً عند بعضهم لفكرة «الهوية الكوسوفية» الجديدة، لأن الكثير من الألبان في كوسوفو يجدون فوارق بين نمط حياتهم في الإقليم، وبين نمط حياة الألبان القاطنين في ألبانيا.
مع هذا، يستغرق البحث في مسألة الهوية الكثير من التعمّق في التاريخ والاجتماع والجغرافيا لإيجاد جواب مقنع، فقد يكون لبعض الأحداث التاريخية، كالاستعمار والحروب والأنظمة الحاكمة، دور في تحديد هويّة معينة وتغييب أخرى.
على سبيل المثال، للحقبة العثمانية دورٌ في إدخال الإسلام ومعه مفهوم «الهوية الإسلامية» إلى البلقان، ولحقبة الحكم الشيوعي في كوسوفو أثرٌ في طمس «الهوية الإسلامية» (إذا سلّمنا بوجود هوية من هذا النوع)، كذلك، فإن للصراع الإثني في البلقان دوراً في تقوية القومية الألبانية في كوسوفو.
ويشير الكاتب والصحافي في الإقليم الكوسوفي، ميغين كيلميندي، إلى بعض الأصوات التي نادت بعد الحرب «بالعودة إلى المذهب الكاثوليكي إرضاءً لأوروبا وسعياً للعضوية في الاتحاد الأوروبي». ويضيف كيلميندي: «هذه الأصوات تقول إنه في الحقبة التي سبقت قدوم العثمانيين إلى البلقان، كانت الديانة السائدة هي المسيحية الكاثوليكية، وإذا كنا نريد الآن أن نكون أوروبيين، فعلينا العودة إلى جذورنا الكاثوليكية».
هذا الاقتراح أغضب الكثير من المسلمين، وخصوصاً المتديّنين، ولكنه أبرز رغبة بعض السكان في أن يكونوا جزءاً من الغرب والهوية الأوروبية، ولو على حساب تغيير الديانة. ورغم تعدّد التعريفات والآراء حول تحديد هوية سكان إقليم كوسوفو، تبقى «الهوية الألبانية» الطاغية في تعريفات السكان لأنفسهم، فالتعبير الأكثر شيوعاً في هذا المجال، هو: «الكوسوفيون الألبان» (Kosovo-Albanians).
أمام هذه التصنيفات المختلفة لهوية السكان، ماذا يقول الدستور الذي وُضع خلال السنوات القليلة الماضية؟ يذكرالدستور الذي أسهمت الدول الغربية في صياغته، مشترطةً عدم تبني «ألبانية الدولة»، أن الدولة الكوسوفية هي «دولة المواطنة ودولة مدنية لا تفرق بين الديانات والأعراق أو الإثنيات»، وهو لا يتبنى أي هوية قومية أو دينية للدولة الكوسوفية.
من هنا، تنتهج حكومة كوسوفو ما تعتبره «سياسات وقائية» للحفاظ على «مدنية الدولة».
لا يتبنى الدستور الذي شارك الغرب في وضعه أي هوية قومية أو دينية للدولة

فهي منعت ارتداء الحجاب أو أي علامة دينية مثل رمز الصليب أو الهلال في المدارس والمؤسسات الرسمية. كذلك منعت إدخال مادة دينية في المنهج التربوي، مع الإبقاء على حق الطلاب عند بلوغهم سن الثامنة عشرة ارتداء الحجاب أو اختيار أن يكونوا متديّنين.
وبررت مستشارة رئيسة الجمهورية، غريناتا كرايا، هذه السياسات بالقول إنها «تهدف لحماية الأطفال من غسل الأدمغة». وأضافت كرايا: «إذا كانوا حقاً يريدون أن ينتهجوا حياةً دينية فيمكنهم اختيار هذا الطريق وتعلّم الدين عند نضجهم فكرياً وعقلياً، فيكونون قد اختاروا التدّين بوعيٍ وليس بالفرض».
ومن اللافت أنه لا يوجد تشدد في تطبيق قانون حظر الحجاب أو العلامات الدينية في المدارس، مع أنه سجلت خروق عديدة لهذا القانون. أما المشايخ والأئمة المسلمون، فهم «يشكون» السياسة المتبعة في حظر المادة الدينية من المنهج التربوي.
ورغم إشكالية الهوية في الإقليم، يعتقد معظم الكوسوفيين أنهم يوماً ما سينضمون إلى الاتحاد الأوروبي. أما التحدي الفعلي الذي يواجه كوسوفو، فهو دخول «الإسلام السياسي» إلى الإقليم تحت غطاء «المساعدات الإنسانية» بعد حرب عام ١٩٩٩. وسيُسهم المال السياسي والمساعدات «غير الإنسانية»، في تحويل كوسوفو من نموذج «الإسلام اللايت» (راجع الحلقة السابقة ـ عدد ٢٤٤٨) إلى نموذج متطرّف تستفيد منه بعض الدول لاستثماره سياسياً. فهل تكون السياسات الحالية للحكومة كافية لردع تغلغل «الإسلام المتطرف» في المجتمع؟ الجواب، طبعاً لا، والسبب أن التحدّي يفوق قدرات الدولة حديثة الولادة.